نافذة من موسكو..تأملات في مشروعية السلطة

آراء وأفكار 2019/04/28 12:00:00 ص

نافذة من موسكو..تأملات في مشروعية السلطة

(2 - 2)

إن فقدان الأنظمة مشروعيتها كان أحد الأسباب الجوهرية "للربيع العربي". فقد خلع المجتمع المشروعية عن تلك الأنظمة في لحظة تاريخية، واللافت إن تلك الأنظمة اعتمدت النظام الجمهوري، وشكلياً نظام فصل السلطات، ورفعت شعارات تقدمية تنموية، وواعدة، وزعمت إنها أنظمة شعبية. فيما لم تهتز أركان أنظمة اعتمدت المَلَكِية بكل المواصفات، وأحياناً تقترب من الحكم المطلق أو تفتح المجال لبعض الاعتبارات الديمقراطية. إن فقدان المشروعية هو المقدمة لانهيار نظام الحكم القائم. وليست هناك وثائق أو معاهدات تحدد للسلطة والمجتمع المشروعية، وخطوط الخروج عليها، إنها على الأغلب مقولة وعي سايكولوجية، أو موقف المجتمع من السلطة وأدائها، وقيامها بالمهام التي ينشدها المواطن. إنها تُبرز مستوى ثقة المجتمع بالسلطة التي تحكمه، وإيمانه بمصداقية نواياها.
وتوجد عدة عوامل تضفي الشرعية على السلطة السياسية. الأكثر أهمية من بينها هو عامل الزمن. فالناس بطبيعتهم يعتادون على نمط معين من أنماط الحكم، وعلى تقاليد المراسم ومواصفاته. إن موقف البريطانيين ، من مؤسسة الملكية في بلدهم، هو واحد من الأمثلة الساطعة على كيف أن الزمن يضفي الشرعية على النظام السياسي. إن واقع وجود الحكم الملكي في بريطانيا على مدى عدة قرون، يجعله للكثير من المواطنين ليس فقط مشروعاً، ولكنه الإمكانية الوحيدة بالنسبة لبريطانيا العظمى. ولم يتمكن خصوم الملكية لحد الآن من جر العدد الكافي من المواطنين لصفهم، على الرغم من الفضائح التي لا تحصى في العائلة الملكية.
إن الزمن ( طول فترة وجود النظام) ينبغي أن يكون حاضراً في وعي المواطنين، وبخلافه سيزول النظام من وعي المواطنين. ولو تصورنا إن نظاماً ما، قام سابقاً، وإن المواطنين لا يعرفون شيئاً عن وجوده، فمن غير المحتمل أن يضفي عامل الزمن في هذه الحالة شرعية فعالة عليه. مثلا لو كانت الحكومات العراقية المتعاقبة قد حظرت ذكر عائلة الملك فيصل والنظام الملكي في العراق، فإنها ستُمحيه من وعي العراقيين بعد بضعة أجيال. ولكانت قاعدة المتعاطفين معه قد تقلصت اليوم إلى حد كبير، على قلة عددهم، وضعف أصواتهم.
والعامل الآخر الذي يضفي الشرعية على السلطة هو "النجاح" الذي تحققه. فاذا قيم المواطنون أداء السلطة بانه ناجح وفعال، فإنها ستنال كذلك شرعية. وضمن هذا السياق غالباً ما يشير علماء السياسية إلى تاريخ ألمانيا الحديث كمثال على ذلك. فالمعروف إن ألمانيا لا تتمتع بتقاليد ديمقراطية عريقة، على غرار بريطانيا والولايات المتحدة. وإلى زمن غير بعيد كانت تتألف من عدة إمارات، توحدت في القرن التاسع عشر. ونشأت بعد الحرب العالمية الأولى في الأراضي الألمانية جمهورية فايمار التي كانت ضعيفة سياسياً، وعاجزة عن معالجة المشاكل الاقتصادية والمالية العميقة. وأصبح "الرايخ الثالث" الهتلري بديلاً عن جمهورية فايمار. وتحسن بظله الوضع الاجتماعي والاقتصادي بشكل عميق، ورغم أن السلطة انتهكت على مرأى من الجميع القانون، في مرحلة بناء مؤسسات جديدة، راحت تكتسب الشرعية بعيون سكان ألمانيا، حتى بالرغم من البغض والهول الذي أبداه المجتمع العالمي للفاشية. واللافت إن موضوع شرعية نظام هتلر لم يُطرح بعد هزيمة ألمانيا النازية ـ فقد أصبحت لا شرعيته ظاهرة، ليس فقط للمنتصرين، وإنما للألمان انفسهم.
حينما تم إنشاء جمهورية ألمانيا الفيدرالية في الأراضي التي ألتي احتلتها أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وتشكلت مؤسساتها السياسية برعاية الحلفاء الغربيين، على وفق نموذج النظام السياسي للمنتصرين، لكنها لم تحرز في البداية على إي نوع من الشرعية. بيد أن النجاح غير المسبوق الذي حققته أول حكومة ألمانية برئاسة كونراد أديناور، التي تمكنت في فترة قصيرة بكل معاني الكلمة من انتشال ألمانيا من الأنقاض وتحقيق ما بات يطلق عليه " المعجزة الألمانية"، أضفى الشرعية ليس عليها فقط وإنما على النظام السياسي باسره. وعلى الرغم من أن النظام السياسي في ألمانيا غير مثالي، مثل المؤسسات السياسية في أي دولة حتى التي تعمها الرفاهية، وعلى الرغم من إنه تأسس في مرحلة الاحتلال، فانه يتمتع بالشرعية التامة. ولم تجر تغيرات عليه منذ إقامته، ولم يطرح المجتمع قضية إصلاحه. وتكمن في أساس شرعية الحكومات الألمانية نجاح سياساتها المتواصل.
ويمكن كسب الشرعية من خلال اعتماد أسلوب صحيح وطبيعي من وجهة نظر المواطنين، في عملية تشكيل السلطات. إن الانتخابات هي هذا الأسلوب الناجع والصحيح بالنسبة لغالبية الدول المعاصرة والمتطورة. ففي مثل هذه البلدان يتم الامتثال للقوانين التي تتبناها هذه السلطة، التي انتخبها الناس ومنحوها صلاحيات محددة. في الوقت نفسه يجري الفصل بين المنصب والشخص الذي يشغله، فصل سمعة ومكانة الشخصية عن سمعة ومكانة المنصب. ويجري الامتثال للرئيس ليس لأن المواطنين يرون فيه الرجل العظيم والحكيم والمعصوم عن الأخطاء والذنوب، ربما لا يرون فيه هذه المواصفات، ولكنهم يمتثلون له فقط، لأنه يشغل منصبه على أسس قانونية. إن المواطنين في الدول الديمقراطية يمتثلون ليس للشخص بقدر امتثالهم للمنصب ومكانته. بالرغم من إنه لا يجوز في إطار النظام الديمقراطي إلغاء تماماً عامل موقف المواطنين من الشخصية التي تشغل هذا المنصب أو ذاك. إن القوانين والتقاليد والتركيبة الذهنية تترك دائما حيزاً للشخص لكي يختار: الامتثال لصاحب السلطة بهذا القدر أو ذاك، تبعاً للموقف منه كزعيم وشخص.
إن الإدعاء بالأصول الإلهية للسلطة، يمكن أن تكون عاملاً مقنعاً لمنحها الشرعية من قبل المجتمع. ففي التاريخ البشري ثمة أمثلة عديدة على سعي العوائل الحاكمة وحتى من قبل أولئك الذين اغتصبوا السلطة بالقوة، الزعم " بارتباطهم بعلاقات خاصة " مع الذات السامية. إن فرعون مصر أعلن نفسه إلهاً حياً، والعديد من الملكيات في العالم الإسلامي تعيد أصولها إلى الرسول محمد(ص).
وأخيراً هناك أسلوب آخر للشرعية يتمثل في اقتران السلطة بالرموز والشعارات القومية واعتراف الشعب بأن هذه السلطة هي أفضل معبر عن الخصوصية الثقافية والتاريخية لهذا الشعب وهذا البلد. ويجمع علماء السياسية على أن الأنظمة من غير الفعالة، والتي تشكل خطراً على الشعب تتبنى هذا النمط من الشرعية.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top