كيف نُعدّ طالباً مؤهلاً للدراسة الجامعية

آراء وأفكار 2019/05/04 12:00:00 ص

كيف نُعدّ طالباً مؤهلاً للدراسة الجامعية

-خطوات على طريق البناء التحتاني-

 د. حيدر نزار السيد سلمان

لم يبذل الباحثون في مجالي التربية والتعليم وكشافو أسباب التدهور جهوداً حقيقية لكشط القشرة الخارجية لموضوعة بحثهم المتمحور حول أسباب تدهور وتراجع مستوى التعليم باعتماد التحليل والتقييم بطرق أصيلة وحقيقية بغية الوصول للجذور الأولية لمدار بحثهم، إذ تركزت كتاباتهم وتنظيراتهم حول القشرة الخارجية دون التوغل بأعماقها، ويمكن لنا القول إن ما قُدم في هذا السياق لا يعد كونه تفسيراً عرضياً تلفيقياً لا يهتم بالخفايا أو الداء المستشري في عمق العملية التعليمية، وهذا لا يعني انعدام عوامل تراجعية في منظومة التعليم العالي. من المؤكد إن التعليم الأولي بمستوياته الثلاث ( الابتدائي – المتوسط – الإعدادي ) يشكل القاعدة الأساسية للتعليم الجامعي والرادف للكليات والمعاهد بالعناصر الرئيسة في التعليم وهُم الطلبة، فالدراسات المستعجلة التي تحدد مشكلة تردي التعليم الجامعي بالجامعات لوحدها ما هي إلا عملية تلفيقية لن تبلغ بالباحث إلى نتائج تتعلق بإيجاد الحلول والمعالج الشافية.
في المدارس وبمستوياتها الثلاث ترتبك العملية التعليمية والتربوية إلى درجة العبث وتتدهور بشكل خطير ينذر بسوء اكبر له عدة أوجه، وتشكل الصفوف الدراسية المكتظة أهم الإرباكات وأشدها خطراً، فالقاعة الدراسية التي يتعلم فيها عدد من التلاميذ يتجاوز كل المعايير والشروط الحقيقية لتعليم ناجح ومثمر لم تعد إلا مكاناً للفوضى والعبثية ، وعلى سبيل المثال فإن العدد المثالي لصف دراسي في مدرسة ابتدائية لا يتجاوز ال25 تلميذاً ليتمكن المعلم والتلاميذ من تحقيق الهدف المراد والتفاعلية المطلوبة تجاوز كل هذه الشروط ليتراوح عدد التلاميذ في أية مدرسة ابتدائية حكومية وفي المراحل المختلفة بين 50 -90 تلميذاً يتلقون تعليماً في مواد علمية ولغوية من معلم فاقد السيطرة على هذا العدد المشكل أصلاً من خليط من أبناء أسر تتنوع في أوضاعها الاجتماعية والنفسية والتربوية وينفرط حبل السيطرة عليهم من قبل معلميهم بالإضافة إلى صعوبات في التعليم والعمل التربوي مع عدد مثل هذا ، ويمكن شمول حتى المدارس الأهلية بهذا الوصف رغم إن هذه المدارس تقدم تعليماً لا يرتقي لمستوى المبالغ المدفوعة ثمناً له، كما إن الجهود المبذولة من معلم فاقد لشروط المعلم الأصيل كالثقافة والاحترافية والعلمية والإرادة والشخصية والمظهر الخارجي إن هي إلا إستثناءات في طريقها للزوال تربك العملية التعليمية في المستويات الثلاث المذكورة بل تفقدها قدرة الإنتاج وبلوغ الأهداف العلمية والتربوية وبالتالي فإن صناعة تلميذ متعلم يحمل معلومات وفهم ابتدائي كقاعدة أساسية للتعليم الجامعي تنتهي الكثير منها بالفشل الملحوظ ليبلغ هذا التلميذ ونتيجة للتهاون في الاختبارات وبكل المراحل الدراسية ضمن المستويات المذكورة؛ المرحلة الجامعية وهو مشوه تعليمياً لا يملك قاعدة فكرية وعلمية يبني عليها مايتلقاه من دروس ومحاضرات في مجال اختصاصه، وحتماً إن الأمر لا يستغرق كل المعلمين والتلاميذ بل إننا نشير إلى القطاع الأوسع الذي يتنقل في المراحل والمستويات الدراسية دون أن يتمكن من حفظ المعلومات والمفاهيم أولاً وفهم المادة العلمية التي يتلقاها ثانياً. ويمكن لنا أن نعزز أدلتنا بالهبوط المثير في مادة اللغة العربية وخصوصاً فيما يتعلق بالإملاء وقدرة التعبير، وهذا يشمل قاعدة عريضة من الملتحقين بالجامعات العراقية التي لا ذنب لها ولا دور في هذا السياق الأولي، فأساتذة الجامعات تصلهم مادة ((طالب جامعي)) وقد تم إعدادها لهذا المستوى من التعليم ولا أعتقد إن من مهامهم إعادة الطالب للتعليم الابتدائي والثانوي، ولعل في هذه المرحلة تبدأ المشكلة الأساسية التي لم يلتفت إليها الباحثون بهذا الشأن وتغافلوا عن التردي الفاضح في التعليم الأولي، وفي هذه المرحلة بالذات يعاني أساتذة الجامعات من معضلة التعامل مع أعداد كبيرة من الطلبة غير المؤهلين للدراسة الجامعية فبالإضافة إلى ما أشرنا له من ضعف البنية الأساسية التي تشكل قاعدة البناء الكلي الفوقي تبرز مشاكل أخرى لا تقل خطورة، وهذا المرة تتعلق بالمعلومات العامة المستقاة من المدرسة أو من وسائل الإعلام أو القراءة الحُرة أو الحياة نفسها من خلال حضور المجالس والندوات والمحاضرات الخارجية ولعل هذه المشكلة تتعلق بالدراسات الإنسانية أكثر من تعلقها بالدراسات العلمية المجردة فعلى سبيل المثال يمكن ملاحظة ضعف وانعدام المعلومات في مجالات الجغرافية – السياسية – التاريخ – السير الخاصة بالعظماء والرموز في الوقت الذي تتكدس عند عدد من الطلبة معلومات متراكمة عن رموز تشكلت بفعل الصدفة وفنانين وأبطال مزيفين وتشكل هذه الانقطاعات المعلوماتية والعلمية سداً منيعاً أمام الفهم والحصول على المعلومات عند الطلبة إذ يجدّ أساتذة الجامعات بقوة ومثابرة لإحداث خرق في هذا الجدار والسماح لتدفق المعلومات وفتح شهية الطالب على الاستيعاب والفهم.
في عملية البحث تحت القشرة الخارجية والتوغل بعمق بامتداد الجذور تتضح الحقيقة وتبرز المشاكل الأصلية في ضعف وتدهور مستوى التعليم. فالبناء الأساس الذي يستغرق المدة الزمنية التعليمية من الابتدائية إلى نهاية الثانوية هو المفتاح في فهم المشكلة المراد إيجاد معالجات لها، وبدون إيجاد حلول لهذا البناء التحتاني لا يمكن الحديث عن تطوير في التعليم الجامعي، والحلول والمعالجات قد تبدو بعيدة المنال لكنها ضرورة حقيقية ويمكن تمثلها بإنعاش التعليم الأولي وأحداث تغيرات جذرية عميقة في بنيته المنهجية والمادية ولعل ذلك يستدعي دراسة المناهج الدراسية وتطويرها وتشييد آلاف المدارس لتعزيز الموجود وفك الزخم والاختناق الحاصل في القاعات الدراسية وإعادة الاعتبار للمعايير الدراسية المتمثلة بعدد تلاميذ القاعة الدراسية التي لا يتجاوز ال25 تلميذاً، إذ يمكن للمعلم السيطرة والتحكم بدرسه وزيادة قدرته على التعامل مع عدد تلاميذ يستطيع التفاعل معهم والخوض مع كل واحد منهم بمواضيع المادة المقررة. ويترتب على هذا أيضاً إعادة تأهيل عدد كبير من المعلمين عبر دورات مستمرة وجذرية وغير شكلية وبروتوكولية ظاهرية، على أن تتعهد هذه الدورات على تقييم المعلمين كل حسب مادته العلمية باختبار جاد ورصين هو ما يشجع المعلمين على إجراء إختبارات جادة ورصينة وعادلة لتلامذتهم وإبقاء الفاشلين بالاختبارات في مراحلهم الدراسية. وأعتقد أن الخطأ العظيم الذي ارتكبته الحكومة عندما وفرت المبادرة التعليمية الفوقية وأهملت مبادرة التعليم الأولي (القاعدة + الأساس) إذ كيف يبنى ما فوق على ما تحت المنخور المتهاوي الضعيف في أسسه، وهنا مكمن الدهشة والاستغراب.
حتماً إن ضخ الطلبة للجامعات سيقتصر على المقتدرين والأكفاء الحاصلين على معلومات أولية أساسية تؤهلهم للدراسة الجامعية، وسيُعزل الفاشلون من التلاميذ خارج أسوار الجامعة لأنهم لا يستحقون أن يكونوا طلبة جامعيين لفشلهم في التأهل العلمي القائم على الحفظ والفهم والأدراك والتمثيل، وحينها سيقف الأستاذ الجامعي في قاعة دراسية وهو يلقي محاضراته على أفراد من الطلبة المستعدين عقلياً لفهمها وتلقف معلوماتها وهضم مادتها معتمدين على ذاكرة حافظة وعقلية فاهمة دون الحاجة للتكرار ودون معاناة من تراكم البناء العلمي والفكري بوجود قاعدة يمكن إيجاد تراكم معرفي على أُسسها وركائزها المكونة في مرحلة التعليم الأولي.
تبدو هذه الخطوات هي السائدة في العالم وبكل المستويات والمراحل الدراسية ويمكن لنا التذكير أنه لا يمكن لأي أستاذ جامعي وهو محدد بمدة زمنية أن يعيد عقارب الساعة للوراء ويتحول إلى معلم يلقن طلبته معلومات ومفاهيم كان عليهم تلقيها في الابتدائية أو الثانوية وبوساطة معلمين يعملون لهذه المهمة في الوقت الذي يعمل الأستاذ الجامعي لمهمة البناء التراكمي على قاعدة ما بناه المعلمون وإحداث نقلات فكرية وعلمية وإنضاج طالب جامعي وخلق طاقة جديدة في اختصاص معين، فيكون بذلك قد حصل العمل التكاملي المؤسس على التراكم المرحلي وليس كما نرى الآن من بناء فوقاني على قاعدة مهزوزة وضعيفة البناء.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top