د. أحمد عبد الرزاق شكارة
من الصحيح القول بأن حالات الانتحار ليس أمراً مستحدثاً وتحدث في العالم من أقصاه إلى أقصاه بغض النظرعن طبيعة الأمم ، الدول ، الثقافات ، الأديان ، الاجناس والطبقات . من هنا أيضاً نجد أن الكثير من دول العالم سواء المتقدم صناعياً وتقنياً أوغير المتقدم في عالمنا الذي يعرف بعالم الدول النامية أو التي تلك تعاني من درجات في التخلف كلها تعاني من انتشار هذه الآفة القاتلة .
ما يخصنا مع إزدياد معدلات الانتحار في العراق في الأونة الأخيرة (علماً بإن بلدنا لم يعرف سابقاً من الدول التي تنامت فيها مثل هذه الظاهرة بهذا الحجم) حيث بلغت في الاحصاءات الحديثة نسبياً مايقارب من 3000 حالة في الفترة بين 2015 و2017 ما ادى إلى أن تتصاعد الأصوات بشكل قوي من قبل فئات مجتمعنا وسلطاتنا الرسمية ومنظمات مجتمعنا المدني حول كيفية مواجهة مثل هذه الظاهرة الخطيرة التي أنهت حياة غالية لشبابنا وهم في مقتبل العمر في مرحلة يفترض أنها تمثل ذروة إنتاجهم الحياتي - العملي ؟.
حالات إنسانية مؤلمة جداً تمّ تداولها عبروسائل الاعلام المتنوعة ومنها على صفحات التواصل الاجتماعي حيث "الأمثلة الفارقة" التي توضح أن ظاهرة الانتحار أخذت مساراً خطيراً ذا طابع دراماتيكي منها "القفز من فوق جسرأو قطع الأوردة أو شنق أنفسهم أو الحرق". المفوضية العليا لحقوق الانسان رصدت حالات الانتحار في المحافظات للعام 2017 ، حيث وجدت أن محافظة ذي قار تصدرت المعدلات العليا (119) تبعتها ديالى (76) ، نينوى(68) ، بغداد(44) و البصرة (33) . كما أن حالات للانتحارغير المحددة بشكل دقيق قد تم رصدها في إقليم الشمال "كردستان". الشئ المهم معرفته أن هناك حالات متعددة كثيرة لم يتم رصدها حتى الآن ، لإن الموضوع ذاته يتمتع بحراجة مجتمعية تجعل من الصعوبة بمكان الافصاح عنه ما يعقد من معرفة حجم الظاهرة وتداعياتها بصورة دقيقة. الارقام الاخيرة التي بين لدينا نشرها موقع راصد الشرق الاوسط ( Middle East Monitor – Memo) عن المفوضية العليا لحقوق الإنسان (IHCHR) عن دراسة لظاهرة الانتحار في العراق تشير إلى أن حالات الانتحار في العراق في الربع الاول من 2019 تصاعدت ووصلت إلى 132 حالة حيث أن محافظة كربلاء المقدسة تصدرت المحافظات الأخرى بعدد حالات الانتحار مايقارب 20 حالة ، ومن ثم 19 في البصرة ، تلتها محافظتي كركوك 15 وذي قار 14 ومن بعدها المحافظات العراقية الاخرى.
جدير بالذكرإنه سبق وأن أصدرت وزارة الصحة العراقية قبل سنوات قليلة ماضية "قرارا بإستحداث وحدات –متخصصة- في المراكز الصحية لمعالجة الاضطرابات والأمراض النفسية ، وافتتحت 9 وحدات منها داخل بغداد". جهد جد متواضع تجاه معالجة لظاهرة خطيرة أخذة في التنامي مجتمعياً . لكن السؤال الآخر المكمل الذي يجب معرفته هو لماذا تم إيقاف العمل بها - كما تناقلت الأنباء لاحقاً - رغم أهمية المهمة التي تضطلع بها مثل هذه المراكز؟ هل المبررات مالية فقط أم كما تشير بعض المصادر إلى أن الامريمكن إرجاعه فقط لحصول تغيير وزاري جديد. أم لأسباب أخرى لانعرفها حيث تغيب الشفافية في المعالجة ؟ ولكن أيا كانت الإجابة ، مايهم الانسان العراقي معرفته أولا : ما طبيعة المبررات أو الأسباب التي دعت لإزدياد حالات الانتحار وثانياً : هل يمكن تحديد التشخيص والمتابعة للتداعيات بشكل واضح ودقيق ومن ثم ما طبيعة العمل اللاحق للمعالجة والتأهيل وهل يتم بناءً على رسم خارطة طريق واضحة المعالم والأهداف في إطار محاولة جادة لإيجاد حلول علمية وعملية ؟ الجواب غير متيقن منه ولكنه قد يأتي بالإيجاب فقط إذا ما توفرت الإرادة السياسية الفاعلة مقترنة بالامكانات البشرية المتخصصة والأموال الكافية التي يجب أن ترصد لتأسيس مشروعات متعددة تختص بكيفية الانتقال بحياة المواطنين المتدنية من حال لم يسبق الوصول إليه إلى حال أو وضع يليق بكرامة الانسان العراقي وبإحترامه وبتلبية إحتياجاته الانسانية الاساسية دون أي تمييز ناجم عن نظام محاصصة مقيت شمل جوانب مختلفة من حياة المواطنين منتهيا إلى حالات يآس وقنوط شديدة الوطئة تدفع للانتحار المبكر. المفوضية العليا لحقوق الإنسان رصدت مجالات لابد للدولة العراقية خاصة القطاع الرسمي ضرورة التركيز عليها والعناية بها بهدف متابعة تطورها مرحلياً "زمنيا" منها قطاع الخدمات الاساسية التي يجب توفرها لكل المواطنين حيث تتوفر شبكات الكهرباء والمياه الصحية النقية والبنى التحتية الرصينة الحديثة. من منظور مكمل لابد من الإجهاز على ظاهرة الفساد المتضخمة بصورة جذرية تعمل على الحد من تأثيراته الخطيرة على بناء مجتمع سليم وصحي في كل جوانب الحياة، إذ لم يعد مقبولاً تقبل حالات انتشار البطالة الواسعة بين أفراد المجتمع بضمنهاعلى وجه الخصوص بطالة خريجي الجامعات والمعاهد العليا لإن تداعياتها تضر بل تخرق الجسد الاجتماعي – الاقتصادي والسياسي بل والأمني في الصميم. كل ذلك يجب أن يترافق مع جهود جادة مواكبة لحيوية بناء مشروعات نهضوية ترتقي بالمجتمع العراقي وتفتح أمامه آفاق رحبة تنمي حياة مواطنينا وترفع من مستواها بصورة فعلية حقيقية .
دون ذلك ستستمر مساحات الفقر والفاقة بصورة كبيرة تنتشر بشكل غير مسبوق ولا ولن تليق بدولة ذات جذور حضارية وغنية بمواردها البشرية والمادية ومنها على وجه التحديد المعادن المتنوعة والعوائد النفطية التي تبلغ مليارات الدولارات غير الإمكانات الأخرى الضخمة الكامنة التي لو استثمرت بشكل مخطط له ومنفذ جيداً لنقلت العراق إلى مصاف الأمم والدول الراقية ما يعيد آلق العراق الحضاري القديم كما ويمتّن تماسك مجتمعه ويسعى لبناء وتنمية إقتصادياته المتنوعة كي تنعكس إيجابا على كل مفاصل الحياة العراقية التي تعاني اليوم أمراضاً مجتمعية متعددة متنوعة منها ما يرجع بشكل واضح لأفتقاد الإدارة الراشدة والرشيدة للحكم ليس فقط على المستوى المركزي الإداري ولكن بشكل جلي على مستوى أدنى للمحليات والمحافظات.
هذا ولعل من أشد الامراض التي تفتك بحياة المجتمع والاقتصاد العراقي السليم أنتشار ظاهرة تنامي الاتجار وتعاطي المخدرات التي لم تعرف بالصورة أوبالحجم الذي ينقل لنا عبر وسائل الاعلام اومن المصادر الرسمية الشرطية –الامنية خاصة في المرحلة الراهنة. من نماذج هذه الظاهرة مايجري في محافظات العراق المتعددة خاصة تلك التي لديها منافذ حدودية منتشرة على طول الحدود مع الجارة إيران وعلى رأسها محافظة البصرة الغنية ذات الاربع ملايين نسمة والتي بمواردها النفطية الوافرة توفر مايقارب من 90 بالمائة من عوائد العراق الكلية ، ولكنها واقعيا لاتحقق سوى استفادة مادية – مالية محدودة جدا – متواضعة بكل المقاييس - لاتنعكس إيجاباً على حياة قاطنيها حتى في الحدود الدنيا. البصرة المحافظة الثالثة بعد نينوى ( عرفت تاريخياً بفينسيا الشرق نظراً لتطورها التاريخي وللحداثة التي تمتعت بها لاحقاً) انتفضت بشبابها وبكل فئاتها المجتمعية بصورة لن تنسى من التاريخ السياسي العراقي وستستمر بشكل أكبرربما خاصة إذا لم تنته بعد معاناتها شعبياً أو تفاقمت إنسانيا. أعقبتها بشكل مؤسف ومؤلم حقاً انتشار ظاهرة الاتجار وتعاطي المخدرات لدى الشباب العراقي ما أدى إلى أكتضاض السجون بنزلائها في هذه المحافظة وفقاً لبعض التقارير الشرطية – الأمنية التي نشرها موقع راصد الشرق أوسطي Middle East Monitor-(MEMO). بحلول مارس للعام الحالي 2019 استطاعت جهود القوى الشرطية – الامنية ان تسيطر وتصادر شحنة من المخدرات بلغت 15 كيلوغرام وهي تقارب نسبياً نصف الشحنة الكلية التي أمكن للشرطة في البصرة من مصادرتها في العام 2018 . هذا وقد تم احتجاز مابين 50 إلى 60 شخصاً أسبوعياً في العام 2019 ممن أنغمسوا بجرائم تجارة وتعاطي المواد المخدرة أسبوعياً في البصرة بالمقارنة مع عدد قارب أو تجاوز ألف (1000) حالة في العام الماضي 2018. علماً بإن شرطة البصرة قد أشارت إلى أن 97 % من الذين لم تتجاوز اعمارهم ال25 ربيعاً تعاطوا مختلف أنواع المخدرات (من ضمنها الأفيون وأنواع أخرى غير تقليدية) عرف هؤلاء بأنهم عاطلون عن العمل في الغالب الأعم من مجموع اعدادهم الكلية .
مايؤكد أهمية بل وضرورة تتبع العلاقة المتبادلة بين تفشي البطالة التي تستنزف حاضر ومستقبل الاقتصاد العراقي وتعاطي مخدرات التي هدفها تخدير وتبليد الشعور الإنساني بكل معنى الكلمة . ما يزيد الأمر سوءاً عدم توفر مراكز كافية للعلاج الجسدي والنفسي بخاصة للمتعاطين لمثل هذه الظاهرة الخطيرة التي تؤثر سلباً على بناء ونمو مجتمعاتنا في وقت نحن جميعاً في أمس الحاجة لشباب عراقي متمكن وواع ومسؤول يتلقف عصى القيادة المجتمعية والسياسية الرشيدة مستقبلاً دون شروط أو حدود. إن الحلول لهذه الظاهرة يفترض أن تشمل إلى جانب الجنائي - العقابي على أهميته عامل ردع مهم وفقاً لعقوبات تتدرج أو تندرج من السقوف القصوى (أحكام ثقيلة جداً) إلى عقوبات تناسب كل جريمة وفقا لمعطياتها وحجم تاثيرها . ردع كاف ولكنه مناسب لكل من تسول له نفسه أن يخرق "مجرد خدش أوخرق لنسيج مجتمعنا" الذي نريد له أن يكون قويا متماسكا ومتينا ومستداما بيئيا لكن هناك ايضا مساحات أخرى علاجية صحية – نفسية متخصصة تمكن بعض هؤلاء الذين وقعوا ضحية لهذه الظاهرة أن يتعافوا مستقبلاً منها كلياً أو ربما جزئياً خاصة إذا ما تم علاجهم أسرياً ، مجتمعياً ومؤسسياً بشكل مبكر وفقاً لأحدث الأساليب العلاجية كي يعودوا شباباً منتجين يتحملوا مسؤولية بناء حاضر ومستقبل العراق. ولن يقف الأمر عند هذه الحدود بل لابد من أن يستعيد شعبنا كله صحته وقوته وعافيته من خلال إعمال مواجهة حقيقية وشمولية لكل التحديات الراهنة والمستقبلية وفي ظل تشكل رؤية استراتيجية شاملة تنعش العراق والعراقيين تضعهم جميعاً على سكة التنمية الإنسانية المستدامة التي تنقذ جيل الطفولة والشباب بل والمجتمع والدولة بأسرها .