عرّفني على المبدعين العراقيين

عرّفني على المبدعين العراقيين

هشام ملحم×

منذ أن قرأت خبر رحيل فوزي كريم، وخلال قراءتي لهذه المقابلة الرائعة التي أجراها معه علي عبد الأمير، وأنا استعيد ذكرياتي معه في بيروت بحزن وحنين ودمعة وابتسامة. فوزي كريم كان من أطيب وأجمل العراقيين الذين التقيتهم في حياتي، وأنا التقيت بالكثيرين منهم في بيروت وواشنطن، من كتّاب وشعراء وفنانين وسياسيين ومشردين وصعاليك لا تستطيع نسيانهم حتى ولو أردت. ولا يكاد يمر أسبوع دون أن أستعيد هذه الأبيات لفوزي :
"يا بلاد الظما،
والشجيرات خلف الظما تستريح،
لم أعد سلما،
حاصرتني العيون وأوجاعها والزمان الجريح."
فوزي كريم، ككل عراقي خلاّق كان دائماً يتحدث عن "الزمان الجريح" الذي كان يعانيه العراق، عندما التقيته في أول منفاه الطوعي، بيروت، قبل منفاه الأخير لندن، حين كان يتحدث بحرقة عن السلطات القمعية التي تريد دفعه مع غيره من العراقيين الى الكفر بوطن لا يمكن الكفر به. تعرفت عليه في بيروت بين 1971 و1972 قبل أن أغادرها الى الولايات المتحدة في 1972 ، وهي السنة التي ترك فيها فوزي بيروت عائداً الى بغداد. العراقيون، ربما كانوا العرب الأكثر ولعاً ببيروت. فوزي كريم عاشق العراق، وجد في بيروت واحة منفاه الحر وهي أقرب للوطن من أي منفى.
كنا من بين محبي أدونيس ومجلة "مواقف" والتقينا خلال إحدى الأمسيات الاسبوعية التي كان يعقدها ادونيس في شارع الحمراء في بيروت لمناقشة قضايا أدبية وفنية والاجتماع بالكتاب والفنانين الذين كانوا يزورون بيروت. دخول أي كاتب أو فنان عربي يجد نفسه في بيروت خلال تلك الفترة، الى فلك أدونيس كان طقساً ثقافياً لا يمكن تفاديه. تلك كانت أجمل أيامي في بيروت، حيث ما أزال أذكر تلك اللحظة السحرية التي قرأت فيها اسمي مطبوعاً للمرة الأولى فوق عدد من القصائد القصيرة في مجلة "مواقف" اختارها أدونيس من مجموعة أعطيته إياها ليختار ما يرتأيه صالحا للنشر.
جمعنا حبنا الجامح للشعر وولعنا الصاخب بالموسيقي، وأيضا حبنا للخمرة، وميلنا للسكر الذي كان يحررنا من الأعراف ويعطينا حرية الغناء بصوت عال في ساعات الفجر في شوارع بيروت القديمة حيث كان فوزي يقيم في شقة صغيرة وفقيرة. آنذاك عرّفني فوزي على الغناء العراقي الشعبي، حيث تعلقت باغنية "شيخ اسم الله ترلللا"، التي كنت أغنيها حتى أكاد أشق حلقي، على وقع قهقهة فوزي وهو يترنح على الرصيف. كنا أيضاً "نرتل" تنغيمات لبعض سيمفونيات موزارت وبيتهوفن، ونردّد بعض قصائد قصائد أدونيس، وبدر شاكر السياب، وكنا ننتقل بوتيرة سريعة بين الأغاني والشعر والشتائم ضد الحكام العرب وطغيانهم وقهر التقاليد الاجتماعية الرجعية.
عرّفني فوزي كريم على بعض العراقيين المبدعين الذين كانوا يحجّون الى بيروت لأداء مناسك الحرية في شوارعها ونواديها ومكتباتها ومسارحها، وأذكر بالأخص عشاء (كان مناسبة لاحتساء الخمر، أكثر منه عشاء بالمعني التقليدي) جمعنا بحسين مردان الشاعر الصعلوك، المدهش بشعره المعربد ، وحياته الغريبة، الذي التقيت به مرة ثانية فقط، وما أزال أذكره بحنين حتى اليوم.
افترقنا في 1972 ، ولم يكن أي منا يتصور أن يقضي بقية حياته بعيداً عن بيروت أو بغداد. وجد فوزي في لندن، كما وجدت أنا في أميركا ذلك النوع من الحرية التي لا يعرفها إلا المنفيون، حرية المنفى الممزوجة بحنين عميق وحتى ميتافيزيقي لوطن متخيل ولم يعد موجوداً كما كان في الأصل، بل وطنا متغيراً، نستعيده ونعيد صياغته ، ونعيد تشكيله في الذاكرة مع كل يوم في رحلتنا الطويلة بين "الغربة ووعي الغربة".
وداعاً

*صحافي وكاتب لبناني

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top