تلويحة المدى: وردة كالدِّهان ، ما الدهان؟

شاكر لعيبي 2019/05/27 12:00:00 ص

تلويحة المدى: وردة كالدِّهان ، ما الدهان؟

 شاكر لعيبي

ما المقصود بالـ "دهان" في نصوص التراث، وهل يرتبط الأمر مراتٍ بنوع من الأصباغ الملونة المُشْرِقة التي تُرسم بها التصاوير؟ هل يتعلق الأمر بتقتية التمبرا أو التمبيرا المعروفة التي ظلت مستخدمة في أوربا حتى اكتشاف تقنية الرسم الزيتيّ؟
نتوقف أمام نصّين، النص القرآنيّ (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)، وقول الجاحظ: "وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ واحداً، وسُبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان" (البيان والتبيين).
مفسّرو القرآن واللغويون يتوقفون أمام لون ورديّ مقترن بالبرذون. في تفسير الطبريّ قال بعضهم كالفرس الورد، وقال آخر كلون البرذون الورد ثم كانت بعد كالدهان، وذكر آخرون تتغير السماء فيصير لونها كلون الدابة الوردة، وقال آخرون هي اليوم خضراء، ولونها يومئذ الحمرة، وقال بعضهم هو لون البرذون الورد الأحمر. لكن الطبري يخلص من ذلك إلى القول إن المقصود مشرقة كالدهان، وأن المعنى كالدهن صافية الحمرة مشرقة، و( كالدّهان) يعني خالصة. ويستنتج قائلًا: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال عني به الدهن في إشراق لونه، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب".
وعند الذهاب إلى لسان العرب، ستتعزز لدينا الفكرة القائلة إن الدهان يشير إلى لون دهنيّ [زيتيّ تجاوُزاً] مُشْرِق، بالأحرى لمّاع، وقد أدهن بالدهن. ويقال دهنته بالدهان أدهنه وتدهن هو وأدهن أيضاً، على افتعل، إذا تطلى بالدهن. ولحية دهين أي مدهونة. وقوم مدهنون، بتشديد الهاء عليهم آثار النعم. وفي الحديث "كأن وجهه مدهنة»، هي تأنيث المدهن، شبه وجهه لإشراق السرور عليه بصفاء الماء المجتمع في الحجر، قال ابن الأثير: والمدهن أيضا والمدهنة ما يجعل فيه الدهن فيكون قد شبهه بصفاء الدهن.
وعند وصول اللسان إلى مفردة الدهان ينتفي الشك تقريباً في أن المقصود بها الصبغ والتلوين اللمّاع الأملس. يقول والدهان هو الجلد الأحمر، وقيل الأملس، وقيل الطريق الأملس، وقال الفراء في قوله تعالى "فكانت وردة كالدهان"، قال شبهها في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه، وقال الزجاج في قوله تعالى "فكانت وردة كالدهان» أي صارت كلون الورد، وقيل فكانت وردة كلون فرس وردة، والورد يتلوّن فيكون في الشتاء خلاف لونه في الصيف، وأراد أنها تتلوّن من الفزع الأكبر كما تتلوّن الدهان المختلفة. ويقال الدهان الأديم الأحمر أي صارت حمراء كالأديم، من قولهم فرس ورد، والأنثى وردة، قال رؤبة يصف شبابه وحمرة لونه فيما مضى من عمره:
كغصن بان عوده سرعرع - كأن ورداً من دهان يمرع
لوني ولو هبت عقيم تسفع
أي يكثر دهنه، يقول كأن لونه يعلى بالدهن لصفائه; قال الأعشى :
وأجرد من فحول الخيل طرف - كأن على شواكله دهانا
وقال لبيد :
وكل مدماة كميت، كأنها - سليم دهان في طراف مطنب
وقال غيره الدهان في القرآن الأديم الأحمر الصرف. وقال أبو إسحق في قوله تعالى "فكانت وردة كالدهان"، تتلون من الفزع الأكبر كما تتلون الدهان المختلفة.
لاحظْ أن أبيات الشعر الجاهليّ المذكورة تشير إلى ألوان صافية ملساء كملاسة الدهن ولمعانه. مما يعزز ذلك مداورَة ما جاء في حديث هرقل "وإلى جانبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس" أي دهين الشعر.
لهذا السبب من الصعب فهم عبارة الجاحظ كإشارةٍ إلى سلاسة الشحم في الفم، وهو ما لم يتواتر الحديث به، فلم يُستخدم الدِّهان إلا للطلاء تقريباً ووصْف الملاسة والالتماع. الطبريّ يحدّد الدِّهان على أنه إشراق الألوان، وليس الدهن بمعنى الشحم الذي هو في اللغة الفرنسية والإنكليزية على التوالي:
graisse ،grease
الدِّهان إذن ليس الدهن، وهي مفردة يبدو أنها مستخدمة عُرفاً منذ العصر الجاهليّ وحتى زمن الجاحظ بمعنى لوني، وربما لتقنية لونية وللطلاء عموماً.
في كتاب الحيوان يستشهد الجاحظ بأشعار يجيء فيها "وطيب الدِّهانِ رأسه فهو أنْزَع"، حيث يُستخدم الدهان للطلاء من جديد، وفي البخلاء قصة عن رجل دهّان، قد تشفّ أن المقصود بالدهن هذه المرة هو زيت المسارج، وهذا أمر آخر.
عندما تتأمل جملة الجاحظ "وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ واحداً، وسُبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان" وتربطها بما يقول عن التصوير: "إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"، يتنتابك شعور ولعلك تتيقن بأنه يتحدث عن الدهان بالمعنى الاصطلاحيّ، المعجميّ والقرآنيّ، هدا إذا لم تكن العبارة تعاني من نقص أو من تصحيف، بمعنى أن فيها إضافة سقطت على أيدي النسّاخ. لكننا رغم ذلك نراها معقولة بصيغتها الحالية وبالمعنى الذي نقوله.
....
ملاحظات:
- مصطلح تمبيرا يشير الى تقنيِة رسمٍ يقوم على مُستحلَب دهنيّ أو خفيف. وهنا نتحدث عن فن تصوير التمبيرا. لتوضيح طبيعة المُسْتحلَب نحدّد مكوناته: تمبيرا البيض، أو تمبيرا دهنية بصمغ حيوانيّ. من الجليّ أن الدهن أساسيّ في تقنية التمبيرا، وهو ما قد يفسّر كلمتنا العربية، الدهان، بصفتها إشارة لتقنية رسم، وليس إشارة إلى مادة الدهن. من الجدير بالذكر أن تقنية التمبيرا ظهرت منذ القرن الأول الميلادي وما زالت مستمرة إلى الآن. ظلت التميبرا مستخدمة كتقنية رئيسية في التلوين إلى القرن الخامس عشر الميلاديّ أي عصر النهضة الأوروبية حيث تم اختراع الألوان الزيتية.
نجد أن الرسوم المصرية القديمة على جدران المقابر والمعابد وعلى الخشب وأوراق البردي تنهل من هذه التقنية. وفيها يتمّ أولاً تحضير أرضية تصوير جافة تماماً، ثم يرسم الفنان عليها بمواد تلوين مخلوطة بوسيط من مادة لاصقة تذوب في الماء، مثل الصمغ العربي أو الغراء الحيواني أو زلال البيض "صفار البيض".
- Tempera تمبيرا أو تمبرا.
- .مُستحلَب émulsion
- ؟ Pink _Rose الدِّهان مفردة تشير إذن إلى لون ورديّ، فلماذا الوردي بالأحرى.
في لسان العرب: ورّد الثوب جعله ورداً. ويقال ورّدت المرأة خدها إذا عالجته بصبغ القطنة المصبوغة. وعشية وردة إذا احمر أفقها° عند غروب الشمس، وكذلك عند طلوع الشمس، وبلونه قيل للأسد ورد، وللفرس ورد وهو بين الكميت والأشقر . قال ابن سيده: الورد لون أحمر يضرب إلى صفرة حسنة في كل شيء.
- من الجدير بالذكر أن مفردة دِهَان ظلت مستخدمة دائماً في بلاد الشام بمعنى الأصباغ والصبغ، ومفردة الدهَّان بمعنى الصباغ، وفي ذلك ما قد يشير إلى الأصل المعجميّ والقرآنيّ الذي نعالجه هنا.
- هذه المادة تتضمّن الردّ مداورَرَةً على بعض تعليقات شكيب كاظم بشأن مقالتي عن الجاحظ.
- ليس قدامى العرب ولسانهم بدقيقين في تصنيف وتحديد الألوان. وهدا موضوع طويل آخر.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top