مقترح تشكيل مجلس إدارة التراث الثقافي في العراق

آراء وأفكار 2019/05/28 12:00:00 ص

مقترح تشكيل مجلس إدارة التراث الثقافي في العراق

عمر جسام العزاوي

يكاد لا يخلو أي مجتمع أو تجمع إنساني، في أي مكان، من موروث ثقافي ناتج عن تفاعل الإنسان مع الإنسان أو تفاعل الإنسان مع بيئتهِ المحيطة به سابقاً، هذا الناتج الذي يأخذ صوراً متنوعةً ومختلفةً، فكريةً كانت كالمعتقدات واللغات، بلهجاتها، والعادات والتقاليد والطقوس والفلسفة الخاصة بأساليب العيش والتفاعل المجتمعي؛ أم ماديةً كانت، كمنتجات ومخرجات يد الإنسان من آلات وأدوات وأبنية وكافة المستلزمات المادية، الضرورية للعيش والداخلة في التفاعل الحياتي اليومي ضمن بيئات متنوعة وأزمان مختلفة؛ وبما أن التراث الثقافي العالمي هو كل المواد المادية (الملموسة)، وغير المادية (غير الملموسة-الفكرية)، التي تناقلتها الأجيال وحافظت عليها بصورةٍ جيدةٍ من الماضي إلى الحاضر، والإهتمام بنقلها إلى الأجيال القادمة بصورةٍ جيدةٍ أيضاً، فضلاً عن التراث الطبيعي، كالنباتات المعمرة والتلال والجبال والبحيرات الطبيعية والأهوار وغيرها من المواقع الطبيعية، فإنهُ بمجملهِ يُعّد السجل الأساسي للأنشطة البشرية الماضية وتفاعلها مع بيئتها.
هناك أشياء من الضروري حفظها وإيصالها سالمةً إلى الأجيال القادمة، وهذه الأشياء قد تكون مهمة بسبب قيمتها المادية أو المعنوية، الحالية أو المحتملة، أو لأنها تولّد فينا إحساساً معيناً، أو لأنها تجعلنا نشعر بالإنتماء إلى شيءٍ ما، إلى وطن أو عائلة أو تقاليد أو نمط حياة أو بيئة. وقد تكون هذه الأشياء من النوع الذي يمكن حمله أو قد تكون بنايات تصلح أن تُستكشف أو أقاصيص تستحق أن تروى. ولكن مهما كان الشكل الذي تتخذه هذه الأشياء فهي تمثل جزءاً من تراثٍ ما، وهذا التراث يتطلب منا بذل جهدٍ فعال من أجل صونه وحمايته.
بما أن التراث الثقافي هو ذاكرةً للأفراد والأمم ومصدر إنتماءها لماضيها وتركتها لجيل المستقبل فأن أمر حماية هذا التراث والحفاظ عليه يُعّد أمراً بالغ الأهمية. ولأجل ذلك تتسابق الدول في الحفاظ على تراثها الثقافي، وتستحدث له من الوسائل والسياسات والإمكانات ما يحقق لها صيانة مستدامة لتاريخها وتراثها؛ ولم تعد الجهود الرامية لتحقيق هذا الهدف مقتصرةً على المؤسسة الحكومية الرسمية فحسب، بل إتسعت رقعتها لتشمل كل المؤسسات، الحكومية وغير الحكومية، من جامعات ومعاهد ومنظمات ومراكز وحتى مجاميع تطوعية.
تتعدد أشكال وأنواع الحماية وصون التراث الثقافي على المستوى الدولي والمحلي، فالقوانين والتشريعات الدولية والإقليمية والمحلية المختصة بالتراث الثقافي، يصاحبها الجهود الأكاديمية والفنية والإدارية، الحكومية وغير الحكومية، المدنية والعسكرية، كلها تكّون سلسلة مهامٍ ومسؤوليات تقوم مقام السور الحامي الذي يعمل على صون وحماية التراث الثقافي.
إن عملية إدارة التراث الثقافي، في أي بلد، تعتمد اليوم على خطط وإستراتيجيات، قصيرة وطويلة الأمد، تتشكل من خلال الدراسات والأبحاث الأكاديمية وإستخلاص نتائج التجارب السابقة مع الخبرات الميدانية المتراكمة فضلاً عن الإلمام القانوني والتشريعي، سواءً المحلي أو الدولي، يرافقهم السند الإعلامي والفني التوعوي. عليه، فإن عملية إدارة التراث الثقافي في العالم اليوم هي نتاج تظافر الجهود الأكاديمية والفنية الميدانية والقانونية التشريعية والإعلامية الفنية الثقافية؛ بحيث تشكل هذه الجهود بمجملها خلية عمل تصب فيها الأفكار المتنوعة والمختلفة لتنفيذ عمليات صون وتنمية وإستدامة التراث الثقافي في البلد، وهي أساس وهدف ظهور ووجود تخصص إدارة التراث الثقافي العالمي.
وفي بلدٍ كالعراق، الغني بتراثه الحضاري الثقافي العريق، ولكثرة مواقعه الأثرية والتراثية مقارنةً مع إمكانيات وموارد السلطة الآثارية الحالية؛ ونظراً للأخطار، شبه الدائمة، التي تحيط دوماً بالتراث الثقافي في العراق، من نزاعاتٍ مسلحةٍ وعمليات سرقةٍ ونهب وتخريب وتشويه واعتداءات بقصدٍ أو من غير قصد، ونظراً لأن عملية إدارة التراث الثقافي في العراق تحتاج إلى تظافر الجهود على المستويات والأصعدة كافة، السياسية والأكاديمية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية وغيرها، ونظراً لقلة الموارد المالية والبشرية التي تحظى بها الهيأة العامة للآثار والتراث، المسؤولة عن إدارة التراث الثقافي في البلد، ولأهمية كسب الوقت والجهد والمال في عمليات حماية وصون وتنمية التراث الثقافي، ومن خلال العمل الجماعي المكثف؛ نتقدم بمقترح للجهات الحكومية المسؤولة والخاص بتشكيل (مجلس إدارة التراث الثقافي في العراق)، لضمان مستويات أعلى من الحماية والإستدامة والتنمية للتراث الثقافي العراقي، وبالكيفية المقترحة في أدناه:

(الهيكل التنظيمي)
- يكون المجلس برئاسة وزارة الثقافة. وعضوية الجهات التالية:
- اللجنة الثقافية أو لجنة السياحة والآثار في البرلمان العراقي، جهة تشريعية رقابية.
- وزارة التخطيط.
- الهيأة العامة للآثار والتراث، جهة تنفيذية.
- كليات وأقسام علم الآثار في الجامعات العراقية، جهة إستشارية منتجة للبحوث والدراسات والتوصيات.
- الدوائر الخدمية والهندسية في بلديات المحافظات، جهات مساندة للعمل.
- هيأة الإستثمار والغرف التجارية، جهة داعمة وممولة لإقامة المشاريع المقترحة.
- نقابات الفنانين وإتحادات الأدباء، جهة داعمة لنشر الوعي الثقافي.
- المؤسسات الإعلامية المسموعة والمقروءة والمرئية، جهات مساندة للدعاية والإعلان ونشر الوعي الثقافي.
- قوات شرطة حماية الآثار، جهة أمنية.
ملاحظة: فروع المجلس المنشود، يمكن تشكيله في المحافظات العراقية من ممثلي الجهات، الموضحة في أعلاه، المنتشرة في المحافظات.

(العمل الإداري)
- يتم تحضير خطة عمل موضحة ومركزة يشترك في تحضيرها الجهات كافة، غايتها وضع إستراتيجية طويلة الأمد لحماية وصون التراث الثقافي وتنميته.
- إشراك كافة الأعضاء في المجلس في القرار والتنفيذ.
- الإستفادة من تنوع وظائف الأعضاء وتوجهاتهم في تعزيز أفكار إدارة التراث الثقافي.
- العمل على تحفيز كافة التخصصات ذات العلاقة بتخصصات الأعضاء والإستفادة من الأفكار والمقترحات الجديدة التطويرية في خطة العمل.
- إنشاء مركز وطني للتوثيق، يختص بتوثيق التراث الثقافي المادي وغير المادي، يؤسس لضمان حقوق التراث الثقافي وضمان الملكية الثقافية خصوصاً لعناصر التراث الثقافي غير المادي، بما يعزز من أصالته وضمان عدم تشويهه أو نقله إلى غير أصله.
- تنفيذ خطط الصيانة والترميم وعمليات التنقيبات الآثارية، بما يضمن تعزيز التراث الثقافي وصونه وتنميته.

(العمل التنفيذي)
- البحث في أسباب الأخطار التي تواجه التراث الثقافي ومواقعه في العراق، والعمل على تجفيف منابع تلك الأخطار ووضع الحلول المناسبة لمعالجتها، وبالتالي ضمان سلامة التراث الثقافي ومواقعه.
- الإهتمام بالمتاحف والعمل على زيادة عددها أو توسيع المتوفر منها وإعادة تأهيلها وبمواصفات عالية، لتكون المكان الأمثل لحفظ وعرض عناصر التراث الثقافي وحمايته.
- الجرد والتوثيق الواسع والشامل لكل مواقع التراث الثقافي في العراق، وخصوصاً منها المعرضة للخطر، أو التي تعرضت للتدمير والتخريب، وبطرق التوثيق كافة المرئية والمكتوبة والرقمنة الإلكترونية (Digitalization).
- تفعيل دور القوانين الخاصة بالتراث الثقافي والعمل على تطبيقها.
- تفعيل دور الجانب السياحي في تنمية مواقع التراث الثقافي وجعلها مواقع جذب للسياح، لتشكيل مدخول إقتصادي للبلد.
- التحرك على المستوى الدولي والتواصل مع المنظمات الدولية لتعزيز حماية مواقع التراث الثقافي في العراق، وزج بعض المواقع في قائمة التراث العالمي.
- إقامة المؤتمرات والندوات وورش العمل الخاصة بنشر فكرة إدارة التراث الثقافي، وتجميع الآراء والأفكار لتشكيل خطط وإستراتيجيات الإدارة.
- التحرك نحو المناهج الدراسية وتعزيز مفرداتها بمواضيع أهمية وماهية وقيمة التراث الثقافي ومواقعه، ولكافة المستويات الدراسية.
- نشر المطبوعات والملصقات والنشرات التعريفية التثقيفية الخاصة بالمواقع الأثرية والتراثية، وتوضيح ماهيتها وأهميتها.

(الغاية والهدف)
قد تكون بعض المهام والمسؤوليات المقترحة في أعلاه موجودة فعلاً في عمل الهيأة العامة للآثار والتراث العراقية إلا أن تكاتف الجهود بين المؤسسات وإنتشارها في المحافظات العراقية كافة سيضمن للسلطة الآثارية في العراق الوصول المباشر والسهل لمواقع التراث الثقافي المنتشرة في الأراضي العراقية كافة؛ وستعمل الأفكار المتنوعة من قبل أعضاء المجلس، كل بحسب تخصصه وتوجهه، إلى زيادة المقترحات والحلول التي تعمل على تنمية وإستدامة التراث الثقافي ومواقعه والنهوض به فضلاً عن تعزيز عملية حمايته وصونه؛ كما أن مشاركة تلك المؤسسات سيوفر الجهد والوقت المطلوب من الهيأة العامة للآثار والتراث، وهي الجهة الوحيدة التي تعمل بشكلٍ مباشر في موضوع إدارة التراث الثقافي في العراق، لأداء مهامها ومسؤولياتها، وسيوفر الموارد التي تفتقر إليها الهيأة في مواصلة عملها وبالتالي ضمان الحصول على نتائج أكثر جدية وأكثر تأثيراً، فضلاً عن أنها ستكون متنوعة وسريعة التنفيذ؛ إلى جانب الفائدة الكبيرة التي ستتحقق من خلال مشاركة تلك المؤسسات وكوادرها في جعل الكثير منها يلتفت إلى أهمية وقيمة التراث الثقافي للبلد، وبالتالي ضمان ارتفاع مستويات الحماية للمواقع، مع توسيع إنتشار التوعية الثقافية الآثارية في مختلف شرائح المجتمع العراقي، والتي ستكون بمثابة خط صد ومانع قوي لأي عملية مساس بالتراث الثقافي ومواقعه.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top