وجهة نظر: الهوية الثقافية في مجتمعات مغايرة*

وجهة نظر: الهوية الثقافية في مجتمعات مغايرة*

عبد الرحمن عناد

يمتلك الموضوع المثار أهميته في وقت تتزايد فيه أعداد المهاجرين الى بلدان الهجرة ، ومن بينهم أعداد كبيرة من المثقفين في مختلف مجالات أبداعاتهم وتخصصاتهم ، كأكاديميين وأدباء وفنانين وأعلاميين ، يحملون خصوصيتهم التي تشير الى هوياتهم الثقافية التي تميزها بصمات مجتمعاتهم المحلية على أختلافها . أضافة الى الجاليات الكبيرة التي سبقتهم بسنوات وعقود للهجرة والأستقرار في بلدان المهجر ، وهي تحمل خصوصية ثقافاتها وتراثها ومعاناتها ؛ مواجهة أشكالية المحافظة على الذات والخصوصية التي تميزها في المحيط الجديد .
بداية لابد أن نشير الى أن ( الثقافة ليست مزاجاً شخصياً ، أو متاعاً خاصاً يحمله صاحبه أينما ذهب ، كما إنها لا تورث عبر الجينات ) حسب تشخيص دينيس كوشر في كتابه ( مفهوم الثقافة في العلوم الأجتماعية ) ، ويؤشر هذا أول مصاعب وأشكالات الأنتقال من مجتمع الى أخر مختلف تماماً .
الأمر الأخر الذي يطرح نفسه ضمن هذه الأشكاليات هو حقيقة أن لا ثقافة معينة تمتع بكامل النقاء والقدرة على أن تكون هي ذاتها في كل مكان تحل فيه ، وهو ما يعني ضمناً أن هذه الثقافة أو تلك ، وهي في أوطانها الأم قد تأثرت بالمعطيات الثقافية لأمم أخرى ومجتمعات مختلفة ، لكنها أستوعبتها وأفادت منها متمثلة ما هو جيد وصالح منها ، وربما يشير هذا الى واحد من عوامل التفاعل المطلوب ، والتكيف المفترض بين الثقافة المهاجرة والثقافة المضيفة إن صح التعبير .
إن الهوية الثقافية في أبسط تعاريفها ؛ هي مجموع الملامح والمضامين والخصوصية التي تتميز بها ثقافة معينة ، وتتمثل بثلاثة مستويات : فردي ، جمعي ، وطني ، وسيعني هذا لاحقاً أن التحدي في المجتمع الجديد سيكون على نفس هذه المستويات ، وهنا تكمن مسؤولية وقدرة المثقف المعني في الأستجابة لمعالجة هذا الأشكال المضاعف ،والخروج من تحديه بخسارات معقولة كثمن للتجربة الجديدة . وسيعني المستوى الفردي القدرة الذاتية والمحافظة على السمعة الشخصية للمثقف ، أما المستوى الجمعي فهو ما يرتبط بأنتماء هذا المثقف الى عرق أو قومية أو طائفة وما أشبه ، ولابد له أن يحافظ عليه كعامل من عوامل التميز والإحتفاظ بالخصوصية ، ويمثل المستوى الوطني انعكاس الانتماء للوطن على الثقافة من حيث الإرث الحضاري والاجتماعي والفكري .
ولأن كل تغيير أجتماعي ؛ ومن ضمنه حركة الهجرة ، يدفع المثقف الى المراجعة ، والتكيف مع الجديد ، وتحديد الهوية ، التي هي حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو : ( رهان صراعات اجتماعية حول الترتيب والوجود ) فأن على المثقف المغترب أن يأخذ بنظر الاعتبار ، وهو يخوض تجربته الجديدة ، كثقافة محددة ، المواصفات الجديدة في الحاضنة الثقافية الجديدة والمغايرة .
هذه التجربة تتراءى للمثقف بداية في ثلاثة خيارات ، أولهما القبول التام بالجديد وبما يعنيه هذا من تخل عن أغلب ما يحمل من خصوصية ، والقبول بالخسارات التي تنتج عنها ، وثانيهما محاولة البقاء عبر الأنعزال والسكوت عما يشهد ويعاني ، الامر الذي يعتبره البعض خيانة للذات والموقف ، مما لا تنفع معه تبريرات ، أو محاولات تعويض لاحقة . وثالث الخيارات هو قبول التحدي بأيجابية وتأكيد الهوية والخصوصية ، وهذا موقف يتطلب الأستعداد لقبول كل ما يفرزه من صعوبات على المستوى الفردي كشخص وكمثقف له خصوصيته كممثل لوطن أخر ، ويتمثل ذلك في وسطية التعامل من خلال التخلي عن بعض ما يحمل وقبول الجديد الذي يضيف ويغني الفكر والتجربة ، وفِي بلدان المهجر نماذج دالة على ما تقدم من خيارات ، وأظن أن ثالثها كان الأوسع والأكثر حضورا ومقبولية .
أخيراً . . لابد من الإشارة الى أن وجود مؤسسات ثقافية وأجتماعية جادة المسعى وصادقة النوايا في بلدان المهجر - بما يعنيه ذلك من ممارسات ثقافية واجتماعية وفنية وأصدار مطبوعات رصينة - هو من ضرورات وعوامل تمكين المثقف المغترب من تأكيد ذاته ، وقدرته على التكيف الإيجابي ، ومواصلة دوره في مجتمعه الجديد .

* ورقة قدمت في أمسية أقامتها مؤسسة (المجال) مدينة مالمو

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top