د. نادية هناوي
في أغلب الأعمال الروائية للكاتبة العراقية أنعام كجه جي، هناك ارتياد لمنطقة الهوية بوصفها رهاناً سردياً، يرادُ منه الكشفُ عن الانتماءِ الذي يتبعثرُ متشظياً بين مكانين: أحدهما الوطن/ الأصل، والآخر المنفى/البديل.
وهذه المراهنة هي التي تحيد بروايات كجه جي عن أن تكون نوعاً أدبياً إلى أن تكون نوعاً فوق الانواع أو جنساً متقدماً على الأجناس، كتركيبةٍ رفيعةَ الصيغة، وكتابةٍ تجتمع فيها المتضادات من قبيل البساطة والتعقيد، الهشاشة والمتانة، التعقل والجنون، الغنى والخواء، الوضوح والالتباس.
إن الرواية عند كجه جي هي الحياة في يومياتها ودوامة روتينها الذي ينبغي على الشخصية التعايشُ معه باستمرار. ولا يعني اهتمام الكاتبة بموضوعة الهوية ارتكاناً عند خطٍ كتابي، يجعل رواياتها كالحفيدة الامريكية والنبيذة، تسير على ذات المنوال في التعبير عن الهوية، وإنما هي ذاتُ خطوط ٍمتجددةٍ، تفاجئنا بتوظيفاتٍ مختلفةٍ، ومنها توظيفُ السخرية التي تندسُ في تضاعيف رواية ( النبيذة ) مخلخلةً الرؤية الواقعية الجادة بالتناصات الشعبية التي تقلب الرواية إلى ما يشبه الباروديا التي هي عند منظري الأجناس الأدبية تقع في درجة ثانية بعد الرواية الواقعية. وما كان متاحاً لهذا التحول من الرواية الواقعية إلى الباروديا الهزلية الساخرة أن يكون، لولا أنّه سمة من سمات سردياتِ الشتات التي فيها تكون أحادية الانتماء وبالاً ومرضاً، بينما يغدو التعدد في الانتماء استقراراً وتعافياً.
ويتخذ التنابذ في رواية( النبيذة ) صيغة الذكريات والاعترافات بضمير المتكلم كطريق سالكة للتعبير عن الهوية في تشظيها ونستولوجيا التعبير عنها، سواء في الغوص في أعماق النفس الانسانية أو في مواجهة الواقع المعيش الذي هو موضع اتهام واستخفاف وإدانة؛ نظراً لما فيه من قيم الوهم والخداع التي حرص الكاتب الواقعي دائماً على التعبير عليها.
وبسبب السخرية يغدو الحدث السردي ممهوراً بين حكاية تريد من الشخصية نبذ انتمائها للماضي؛ وبين محكي يريد من الشخصية التمسك بذاكرة حية لا تستغني عن هويتها بشتى الوسائل، ومنها استعمال اللهجة الدارجة بالمثل العامي أو بالاغاني الشعبية أو بالطرف المبتذلة، رغبة في توكيد نوعٍ من الانتماء.
وما بين هذه التضادات تتوزع الشخصية بين منفى هو الحاضر الذي يحميها من الخارج، ووطن هو الغائب الذي يعمق خواءها من الداخل. وهذا بالضبط ما تريده سرديات الشتات أعني التعبير عن خيبة الأمل بالعودة إلى مكان يوتوبي لا وجود له هو الوطن، وبارقة أمل في الاعتياد على منفى هو بيئة حضارية ما بعد أنوارية، من تجلياتها الاقرار بالتعددية في الهوية كعلاج ناجع، به تداري الذوات المسرودة خيبة أملها في استعادة وطن ضائع أو امتلاك هوية مستلبة.
والسبيل الذي به يتحول الاقرار بالتعددية إلى واقع نصي هو الذاكرة السردية، التي يتخذ الاشتغال عليها أنماطًا شتى، والنمط الذي اشتغلت عليها كجه جي هو( الذاكرة الممرنة ) التي تؤدي دوري الشاهد والمشارك، ساخرةً من ماضٍ غائر مخروم وحاضرٍ غاوٍ مصنوع. وأهمية هذه الذاكرة في السرد هي التي جعلت بول ريكور يتساءل في كتابه( الذاكرة التاريخ النسيان) مم تكون الذكرى؟ ولمن هي الذاكرة ؟
لا مناص من القول إن للذاكرة علاقة بالتاريخ بوصفها هي الشاهد بأنا المتكلم أو نحن المتكلمين على حقيقة أنها هي الماضي الذي تستعيده متمرنة على مقاومة الخرم والخرف، متدارية بالخيال وهي تتمثل حاضر شيء غائب كي تقبض عليه، حائزة الحاضر والغائب معاً، وهذه الحيازة يشبهها بول ريكور بالاحتفاظ بالعصفور في اليد أو في القفص .
هكذا تكون الذاكرة الممرنة فاعلًا سرديًا، فيها الخيال يضاهي الواقع، والقرين يرافق الذات التي أنيستها السخرية التي بها تنابذ نستولوجيا ماضٍ جميل في شكل مونولوجات داخلية" من يصدقها لو حررت هذا اللسان وروت؟ سيقولون أصابها الخرف ليست خرفانة كل ما في الأمر إنها امرأة ذات ماض طويل، هو على علاته وسام شرفها" ص15، متمتعة بهوية خالية من الشرخ، ووعي لا يعاني خرماً ولا خوفًا.
ولا تستحضر الذاكرة الممرنة الماضي مثل سر تنغلق عليه؛ بل باشهار يتوسل بالخيال الذي به تقاوم النسيان والعوق، متحصنة من الكآبة، غير متهالكة بالألم والمرض. وهذا ما جسدته ذاكرة البطلتين تاج الملوك ووديان وهما تبحثان في ذاكريتهما عن هوية تدلل على حضورهما، شاهدتين على زمنين عراقيين، عراق الأمس الماضي وعراق اليوم الحاضر.
بهذا تغدو الرواية حلبة لتنازع صوتين سرديين كل صوت يحاول أن يجد في مأساته ما يسخر منه، وقد مرّن ذاكرته، متلاعبًا بهشاشتها، متسائلاً: من أنا ؟
ولا عجبَ أنْ تأتي الإجابات هشَّة كما يرى ريكور على صيغة: هذا ما نحن عليه، نحن المختلفتين, وقد استعادتا التاريخ بالتخييل والأنا بالنحن، تعبيراً عن تعدد هوياتي، من صوره تعدد الاسماء ( تاج الملوك، تاجي عبد الحميد، مدام شامبيون، وديان، صغيرتي، وادي)
وإذا كانت الذاكرة لديهما متدربة على التحصن من النسيان بالاغراء والمواربة، فإنها أيضا محرِّضة وليستْ صامتة، مؤدلجة بالتنمّر ومتمركزة بالتذمّر. الأمر الذي يجعل الحبكة السردية عبارة عن استراتيجية في حسن استعمال الذاكرة الممرنة التي تغدو جماعية، تعالج الحزن والانطواء بالسخرية من القلق والنسيان "أحوال البلد مثل بول البعير يتقهقر للوراء"ص320،.
وبالذاكرة الجماعية تصبح البطلتان متناظرتين في الانتساب إلى هوية تتعدد بتنابذ الصور التي تُستدعى بطريقة تجعل الرواية بتعبير والاس مارتن خطابًا تضاديًا، يمزجُ الواقع بالخيال والأنا بالنحن والجد بالسخرية، متفكِّهاً بالتوليفية التي بها يتغلب التغريب على المحاكاة. ويغدو التنمر وسيلة في كشف زيف الواقع، ككابوس فيه السخرية هي الملاذ من ماضٍ مأساوي يطارد البطلتين كخفاش يريد من تاج الملوك العجوز التسليم للمرض، ويريد من وديان الشابة الطرشاء التنازل عن الحلم، لكنهما تقاومان بيقظة ذاكرتيهما الممرنتين ( تستطيل الحياة وتتمطى أكثر من اللازم ثم تبدأ بمخالفة خط سيرها وتلعب بصاحبها شاطي باطي لا أحد يعرف بالضبط ما هو الشاطي ولا ما هو الباطي) ص9
ويكثر في الرواية هذا الانثيال من التداعي الذاكراتي للأمثال والأغاني، الذي هو أيضا نوع من المقاومة في التشبث بالمكان/ المنفى، والسخرية من الزمان والذات معا. وإذا كان ماضي تاج الملوك مغامرات صحفية وانتصارات عاطفية، وماضي وديان مواهب ضائعة وآمالًا خذلتها السلطة ودحرتها الذكورية؛ فإنَّ كليهما تجدان في الذاكرة الممرنة على السخرية، وسيلة بها تنالان التشفي من هذا الماضي( الدنيا صينية بقلاوة بالدهن الحر أقبلت إحداهما عليها بشهية واكتفت الأخرى بأن تكش عنها الذباب ..كأنهما ضرتان لشبح واحد) ص18
وعدو هذه الذاكرة هو النسيان الذي تقاومه تاج الملوك بالخرف "يمضي الوقت وذكرياتك لا تنتهي" ص143 وتقاومه وديان بالطرش (لا تتراصف الكلمات على لساني غابت عني ابتهالاتي والادعية التي احفظ..رأسي مثقل بطن حديد)ص167
وتبلغ هذه المقاومة الذروة الدرامية حين نكتشف أنَّ هناك ماضيًا هو أخزى من ماضٍ، وذاكرة ممرنة هي أذكى من أخرى، وذلك في المشهد المأساوي الذي هو أطول مشهد سردي في الرواية، وفيه يقبض الأستاذ ابن الشيخ على وديان في حفلة تنكرية، ليضع مكبرات الصوت في أذنيها ويصيبها بالطرش(شعلة لا تحتمل تثقب أذني عيناي تغيمان وهو يضحك يصفق بيدين كبيرتين ..اتذكر فتتدفق دموعي نبعا في صخر تصعد حراقة من اعماق سحيقة في روحي )ص169
وبالرغم من أنَّ وديان تكاشفنا بجبروت الذكورية ممثلة بالاستاذ وحاشيته، وتخاذل الذكورية ممثلة بيوسف خطيبها (ينتحب يوسف وأنا تقتلني دموع الرجال) ص114، فإنَّ السخرية تظل سلاح الذاكرة الممرنة الذي به تتقبل وديان صممها (أن تذكيري بحظي أبهظ من الشفقة وأقسى ) ص183 ، كما يكون استدعاء الامثال والاغاني والأوصاف التهكمية والكلمات الفرنسية معاضداً هذا السلاح (أخفف خمرة ماضيّ بالكثير من الماء بوهم أن أنزع عنها التحريم) ص 27 .
وهذا بالضبط أيضا ما نجده عند تاج الملوك وهي ترسم خيالات من عري وخلاعة ومجون، بها تقاوم ماضيها المترع بالامجاد الذي تهرأ بالعجز وتبدد بكبر السن.
وما أن تبلغ هذه الذاكرة الممرنة عند البطلتين الذروة حتى تأخذ بالتراجع منثقبة تاريخًا وحاضرًا، أولا عند تاج الملوك (بعد تلك الرحلة بدأت ذاكرتها تنثقب تنطفيء وتضيء مثل لافتات النيون تطلع لي بقصة جديدة في كل لقاء)ص315، وثانيا عند وديان ( ثقب طبلتي ففقدت تاريخي) ص85..لكن الجملة التي بها تختتم الرواية (كمْ يخسر الجمال لو اكتمل) هي التي تجعل السرد ينفتح على الرغم من ثقوبه، ليكون في النقص ربح، وفي النستولوجيا جمال. ولن تكون النبيذة هي وديان أو تاج الملوك؛ بل هي الذاكرة التي أريد لها أن تكون نبيذة. بهذا يغدو النبذ موضوعًا من موضوعات السرد ما بعد الحداثي، فيه يكون للذاكرة الممرنة بالجماعية وجود فاعل، كما يكون للتوطن بهوية متعددة، حضورٌ مركزي لا يمكن تجاهله أو الاستهانة به.
اترك تعليقك