علي النجار
(المجتمع الحديث عبارة عن شبكة علاقات يتم من خلالها تحويل الأفراد الى فانتوم مجرد يعرف باسم(الجمهور).. كيركيغارد
(إن رثاء ما بعد الحداثة يتجلى في الحِداد، من أن الحقيقة لم تعد سردية أساسا) ..ليوتارد
لنبدأ أولاً في كيفية كتابتي لهذه النبذة عن موضوعة الفيديو الكولاج ولأقل بأمانة بان كتابتي في بعضها تلسقيّة، فأنا لست خبيراً في هذا الاختصاص، لكنه التكليف في الكتابة(*)، والفضول المستمر الذي لازمني منذ عقدين لمشاهدة ومتابعة مشاهدة الكثير من منتج الفيديو آرت في أكثر من قاعة عرض محلية وعالمية. منها ما هو يضمر سرد ما، ومنها ما يضمر خفاءً وحيرة تتطلب صبراً لفك رموزها، ومنها ما هو إدهاشي لمجرد الدهشة، ومنها ما هو لغز إنساني يدعوك للانجراف مع تياره، وهكذا هي تنوعات طروحات الصور المتحركة وأصواتها الملغِزة والموسيقية الإيقاعية. هي إذاً عمارة كبيرة أو متاهة تأخذك خطوط سيرها المتوازية والمتعرجة والمتصادمة. لكنني لاحظت في الفترة الأخيرة فيديوهات فنية ملغزة بحق ويصعب فك شفرتها. هو التلسيق الصوري بكل غرابة مصادره البصرية من يصنع خلطتها الغرائبية.
نعم نحن نعيش عصراً تلسيقياً بكل جدارة هشاشته. وباتت شاشة الكومبيوتر(اللابتوب) أو الفون بكل أجياله تتحكم بمفاصل حياتنا، وبتنا لا نرى أو نلمس الحقائق الحياتية إلا عبر صفحاتها اللامعة. تتراصف الصور المتحركة أمام أنظارنا من الطبيعة الجغرافية الى ملاعب كرة القدم واحصائيات المرور والأنواء الجوية وموائد الطعام المصنعة وجداول النحافة والأفلام الترفيهية وأفلام الرعب والعصر الذري الجديد. فأي طبق يصلح للطبق التالي.
حينما أسس بعض الفنانين المغامرين في العقد الثاني من القرن العشرين الداد، لم يكن في بالهم أن يعيد جذوتها العقد الأول والثاني من القرن الواحد والعشرين وبكثافة غريبة. وها هي تغزو عالمنا الصوري المتحرك فيديوهات تلسيقية بإمكان أي كان صغيراً أو كبيراً أن يصنعها بما متوفر من برامج بعضها بسيط مجاني كما
1. (PhotoGrid)
الذي هو( تطبيق بسيط يسمح لصانع الكولاج بإنشاء كليات صور وفيديو. ويمكن من إنشاء مقاطع فيديو قصيرة تصل إلى 4 ملفات فيديو مختلفة. كما يمكن تغيير التصميم وإضافة الموسيقى وضبط الحدود، وقد يكون ضبط النسب لوسائل التواصل الاجتماعي المختلفة أمراً صعباً. لكن يمكن حفظ الصور المجمعة بدقة 720 بكسل ومشاركتها الأصدقاء على اليوتوب والفيس بوك والانسكرام في منصات التواصل الاجتماعي بلمسة واحدة.)
بالطبع لا يهم صناع الفيديو الفني هذا البرنامج البسيط. لكن حفيدي الصغير مثلاً يستعمله لأجل المزاح بتحويل رأسي الآدمي لرأس خروف مثلاً. وكم من أمثال حفيدي في الكرة الأرضية وأمثاله الأكبر سناً من الشبان الذين يولعون بهكذا تطبيقات فيديوية تلسيقية. لقد تحول فن(الكيتش) بابسط صوره الشعبية الى لعبة صورية تتداولها أقدام الصغار قبل عقولهم.
وللمحترفين هناك برامج أخرى، منها : (محرر الفيديو) وغيرها مما يعرفه المتخصصون، .zikoa وملف, 4K ULTRA HD التي لا خبرة لي فيها.
ليس للتاريخ كما عرفناه سابقاً من وجود في هذا الحقل الصوري التلسيقي، هو إذا الانقطاع ولعبة البعثرة. فأين تاريخ الفن مثلاً من هذا بعد اختفاء حقل التجارب الكبرى واكتشافاتها. حقل الإنسان وقيمه كالبطل والعبقري والقائد والملهم والمكتشف. لا شيء هنا مطروح وما عليك سوى شراء وتعلم تشغيل البرنامج وتفعل معجزك التي هي بعض من معجزة شعبية روجت لها منذ الستينيات من القرن الماضي. لقد باتت الفنون الكبرى كما كانت تدعى كالرسم والنحت مثلاً تتعثر في إيجاد مخارج مناسبة لأداءاتها ضمن الغزو الصوري المتحرك وكم الانشاءات والتنصيبات ومنها الصورية الفيديوية المتراكمة باستمرار. وهل هي سياسة ثقافية جديدة تطرحها المؤسسات المعنية لتنحية(الفنون الكبرى، كما كانت تدعى) من مجال الرؤية، ولو من خلال عروض هذه المؤسسات. وأنت تتبضع من متاجر أدوات الفن في أيامنا هذه تلمس شحة مواد الفن التقليدي نسبة الى مواد الدجتل والكرافك دزاين وما يتبعها من معدات. فما معنى ألا تجد أي عرض للفنون التقليدية في قاعة فن مدينة أوروبية ولعد أعوام، سؤال ربما يجيب على بعض من تساؤلاتنا.
نحن إذا في عصر يرفض المعرفة والتاريخ ومجموع النظريات، بعد أن شكك بها منذ القرن الثامن عشر إن لم يكن قبله بقليل. عصر(يحتضن الروايات الأخرى التي رفضها ما بعد الحداثيين كفكرة التطور الفني الموجهة نحو هدف ما. وفكرة تقسيم الفروق ما بين الفن المرتفع والمنخفض، لا سيما بعد إدراج عناصر الثقافة الشعبية. عصر الكيتش للسلع المنتجة على نطاق واسع، والمجلات، والتلفزيون، وخيال ما بعد الحداثة). وهذا ما جسده العرض الأخير لقاعة فن مدينة مالمو السويدية(مالمو كونستال) مثلاً، الذي جمع أعمال التجميع الشعبية والفيديو كولاج للفنانين:
James Richards and Leslie Thornton with Horst Ademeit, Tolia Astakhishvili, Adelhyd van=Bender, Bruce Conner, Emily Feather, Terence McCormack, Vi Khi Nao, Thomas Zummer and Jens Thornton
حيث بدت القاعة شبه فارغة لتستقر الأعمال والفيديوهات في خانات مظلمة وزوايا حرجة. أي بمعنى ما تحول مكان العرض هو الآخر الى ما يشبه صالة العرض السينمائي، لكنها خالية من مقاعدها. انه الفراغ الممغنط بزواياه الضوئية الملغزة المتحركة. لقد كانت لقى الصحف كما لقى كوادر الصور المتحركة تدور في عجلة الغرابة والغربة التلسيقية لعالم الانسان الداخلي والخارجي الحالي. مفرغة من حاوية زمنه العجائبي، ما بين غرائز معطلة وملتبسة وسلع على قارعة الطريق بحصيلة حاوية نفاياتها المصيرية. رغم كون كل هؤلاء الفنانين اشتغلوا على عنوان متقارب، الا ان حصيلتهم التفكيكية النهائية، اعتقدها كانت ذاتية، بقدر ما مشتتة المقاصد. لقد كان العرض عبارة عن تجميع لمعنى الفوضى الملقى على قارعة الطريق وعلى قارعة الحياة.
في هذا العرض تراودني فكرة تبادل الاعمال الصورية التجميعية من مجلات وصور أرشفة شخصية واطعمة وحوادث وغير ذلك، مطروحة على الأرضية والجدران والخزائن، مبادلتها بالفيديويات التلسيقية في غرفها المظلة. ولا أعتقد بعد ذلك يحدث ذلك فرقا ما في النتيجة. ربما راودت هذه الفكرة قيم العرض هذا، لست أدري. مع ذلك ربما لم تكن هذه الفعالية الفنية عرضا فنيا، بقدر من كونها طقسا صامتا وسائلا لوسائل اعلام مختلطة. لكنه الفن السائد الآن بكل تأكيد في ثقافة زمننا الحالي.
ختاماً أعتقد أن لا غرابة في إعادة تدوير فنون اللصق سواء كانت صورية أو فيلمية متحركة وما يصاحبها من أصوات أو نتف موسيقى أو حوارات مبتورة أو مبهمة. فنحن أيضا نعوم ضمن وسط حياتي نلتصق بجزئياته المتنافرة، كما يلتسق بنا. إنه عصر الدادا الجديدة الأكثر فاعلية في غرابته، عصر اللايقين المطلق، بعد كل ما حدث من تغيرات الجغرافيا السياسية.
لقد بات العالم الذي نعيش فيه بلا علامة دالة. فكيف نستدل على حقائقنا بعد هذه البعثرة التلسيقية. لندع إذا جزئياته تطوف بنا بغرابتها التي فقدت فجائيتها. فقد بتنا جزأ لا يتجزأ منها.
(*):Art Magazine Universal Colours
اترك تعليقك