المتمردون..على الإنسان إما أن يهزم العالم ، أو يُصلب على يديه

المتمردون..على الإنسان إما أن يهزم العالم ، أو يُصلب على يديه

| الحلقة الخامسة |

 علــي حســـين

لست أنكر إنني أجمع التراجيدي والمهرج فيَّ، والمهرج يصطادني بطريقة مريعة إلى حد كبير "
برنارد شو

حلم بأن يصبح لاعب كرة قدم ، لكن مشاكل في قدمه اليسرى منعته ، لم تعجبه المدرسة ولم يجد لذة في دراسة اللاتينية ، وشعر بكراهية لدرس الرياضيات رافقته طوال حياته ، وعندما أهدى له صديقه الفيلسوف برتراند رسل كتابه " أصول الرياضيات " ، قال له ساخراً "شكراً ياصديقي ..لا داعي لمثل هذه الهدايا ، فأنا أفهم الرياضيات خير منك " ، وجد العزاء في الموسيقى التي كانت تعزفها والدته في البيت ، التحق بأربعة مدارس كرهها جميعها كتب فيما بعد إن المدارس كانت بالنسبة له أشبه بسجون مفاتيحها بيد أشخاص قساة ..كان يجد لذة في روايات الحكايات الغرامية لزملائه في المدرسة ، وهي الهواية التي رافقته فيما بعد ليصبح واحداً من أكبر كتّاب العصر الحديث .

ولد جورج برنارد شو في مدينة دبلن في السادس والعشرين من تموز عام 1856 ، كان الطفل الثالث لعائلة يعمل والدها في تجارة القمح ، لكن إدمان الشرب جعل تجارته تتدهور مع مرور الزمن ، كانت أمّه امرأة بسيطة ، لكنها قوية أورثته حبها للموسيقى :" لم ألق بنفسي في معترك الحياة ، بل قذقت بي أمي ، ولم أكن لأبي الشيخ عصاً يتوكأ عليها في شيخوخته ، بل تعلقت بذيل سترته " .

سيجد نفسه في الثالثة عشرة من عمره مطالب بان يعيل نفسه ، فعمل في وظيفة ساعي في شركة للعقارات ، كانت مهمته إحضار وجبات الغداء للعاملين ، وفي أوقات الفراغ يجده العاملون في الشركة يجلس في إحدى الزوايا وهم منهمك في قراءة أحد الكتب ، فقد كان يرى أن الوظيفة الحقيقية التي يستحقها ويجب أن يسعى إليها هي " كاتب " ..في تلك الفترة سيرسل مقالاً لإحدى الصحف التي رفضت نشره لأنها وجدت فيه تجاوزاً على الدين ، كان قد حضر خطبة لاثنين من القساوسة ، وقد كتب الى الصحيفة مقالاً قال فيه :" إنه إذا كان ما أدلى به القسيسان هو الدين ، فأنا بالجملة إذاً لمن الكافرين " ..بعدها سيعمل صرافاً في أحد المكاتب الصغيرة المنتشرة في دبلن ، في تلك الفترة سيتعرف على موسيقى فاجنر ، كان برنادشو مولعاً بالموسيقى ، وسيُفرغ كل ما في جيبه لشراء نوتات موسيقاه ، حاول أن يتعلم العزف على البيانو فلم يكن عزفه جميلاً ، إلا إنه شعر بالزهو وهو يعزف أحد مقطوعات فاجنر ، كان فاجنر بالنسبة إليه أكثر من مجرد موسيقي ، سحرته مواقفه الفلسفية ونظرته الى العالم. وسينشر في الخمسين من عمره كتابه " مولع بفاجنر " والذي أراد من خلاله أن يؤكد إن فاجنر لم يكن مجرد موسيقي بل رائداً لفلسفة سياسية تقف بالضد من الفلسفات السائدة ، حيث تعتبر مؤلفات فاجنر الموسيقية تمجيداً لبطولة الإنسان . في تلك الفترة سيقرأ برنادشو كتب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه وقد خلّفت هذه الكتب أعمق الأثر في نفسه ، وأثّرت عليه أيضاّ كتابات غوته وبالتحديد فاوست ، في العشرين من عمره سيقرر السفر الى لندن التي كان يعتبرها " العاصمة الأدبية للناطقين بالانكليزية " ، وسيحاول أن يخرج من " دنيا الخيال الى دنيا الواقع " ، سيعيش في لندن على مساعدات يقدمها له والده " جنيه واحد في الاسبوع " ، يفشل في الحصول على عمل ، يجرب حظه في كتابة الروايات ، فكتب خمس روايات لم يجد لها ناشراً ، وسيجد إن لندن " تريد التهامه " ، وقد أصبح منذ تلك اللحظة متمرداً على هذا الواقع :" كنت وما زلت أشعر بشيء من القلق ، لقد كنت متمرداً على المجتمع ، خارجاً على الكنيسة ، خارجاً على السياسة ، خارجاً على الرياضة " ..في تلك السنوات سيشاهد زوار مكتبة المتحف البريطاني شاباً في العشرين من عمره ، نحيفاً يجلس وأمامه مجلدات كتاب كارل ماركس " رأس المال " ..وقد ظل ما يقارب العشر سنوات لم ينشر شيئاً باستثناء كتيب صغير عن الاشتراكية ، وكانت المفاجأة إن الناشر أرسل له خمسة جنيهات ، مع رسالة يعتذر فيها عن نشر رواية كان قد أرسلها شو لأنها لم تعجبه .. في تلك الفترة سيتعرف في مكتبة المتحف البريطاني على ويليام راشر الذي كان مهتماً بالمسرح ، فطلب منه أن يكتب عروضاً للكتب تنشر في صحيفة مغمورة اسمها " جازيت " ، وقد واصل العمل فيها لثلاثة أشهر لم تحظَ خلالها كتاباته باهتمام قراء الصحيفة فقررت الاستغناء عن خدماته .. عن طريق راشر سيتعرف على كتابات إبسن المسرحية ، ويتذكر إنه عندما قرأ مسرحية إبسن الشهيرة " بيت الدمية " قرر أن يترك كل شيء ويصبح كاتباً مسرحياً ..كان هنريك إبسن المولود في شهر آذار من عام 1828 ، ، متمرداً على المجتمع وتقاليده ، يكره السياسة ويرفض الانتماء الى الأحزاب السياسية : "إنني كافر بالسياسة ، فأنا لا أؤمن بقدرتها على التحرير، وأشك فيمن يمارسون السلطة ولا أعتقد في نزاهتهم أو في إرادتهم" ، حاول من خلال مسرحياته أن يشعل ثورة اجتماعية من أجل حرية الفرد " الإنسان الثوري المتمرد " الذي يسمو فوق القيود الاجتماعية والأخلاقية والسياسية " . . ، في عام 1890 سينشر برنارد شو كتاباً بعنوان " جوهر الأبسنية " وفيه سيعلن إن مسرحيات إبسن تحتوي على تساؤل جريء ، وجذري حول كل نظام القيم الذي يكمن تحت سطح أخلاقيات البرجوازية . بعد ذلك سينضم برنارد شو الى جمعية تدافع عن حقوق الفلاحين ، وسيتركها بعد أيام لينضم الى حركة انشئت حديثاً سميت " الاشتراكية الفابية " ، وقد ضمت عدداً من الكتاب والاقتصاديين ، وقد اختارت اسم القائد الروماني " فابيوس " الذي انتصر على هانيبال في حرب طروادة .وبدأ يكتب مقالات عن الاشتراكية يدافع فيها عن الفقراء ، ويهاجم الرأسمالية البريطانية ، وسيواصل إعجابه بالماركسية والدفاع عنها :" لقد جعلني ماركس اشتراكياً ..وانقذني من أن أصبح أديباً " .. وقد كتب بتأثير من كتاب رأس المال رواية بعنوان " الاشتراكي غير الاجتماعي " ، بطلها ثري يرفض قيم مجتمعه وينضم الى جماعة تنادي بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية ، وسيغير اسمه وكنيته ويعمل متخفياً في وظيفة خادم لأحد الأثرياء من أجل فضح هذه الطبقات البرجوازية . عام 1885 ينتهي من كتابة أولى مسرحياته " بيت الأرامل " والتي قدمت على المسرح عام 1892، وفيها نتعرف على الطبيب الشاب ترنش الذي يلتقي خلال رحلة بحرية بفتاة جميلة يُغرم بها ، فيقرر أن يتعرف على عائلتها وحين يلتقي بوالد الفتاة يكتشف إنه حقق ثروته الكبيرة من خلال استغلال الفقراء الذين يستأجرون عنده بيوتاً لا تتمتع بأي مواصفات صحية .فيعمل ترنش على فضح هذه المعاملة والمطالبة بإقامة مشروع سكني يحفظ لؤلاء إنسانيتهم ..ويعلن بطل المسرحية :" إن ضميري هو منبع الوعظ الحقيقي ، إذ يغيظني أن أجد الناس مطمئنين ، في حين يجب أن يكونوا غير مطمئنين ، وأنا أصرّ على أن أجعلهم يفكرون".

******

يكتب كولن ويلسون إن برنارد شو الشاب كان: 

" لامنتمياً ، كما أن وصفه ينطبق على كل شاب لامع عبقري قبل أن يقنع نفسه أو إنساناً آخر بعبقريته" .. ويضيف إن :" المؤثر الأول على أفكاري في السنوات التي كتبت فيها ( اللامنتمي ) هو برنارد شو ، وكنت قد فتحت المذياع في إحدى الأمسيات وسمعت صوت المستر ايمسي برسي وهو يقول :

- ( أيها الأصدقاء والزملاء من أفراد العصابة ، إنني أود أن أتقدم باقتراح معين في هذا الاجتماع . لقد قضينا حتى الآن ثلاث أمسيات في بحث ومناقشة السؤال التالي : هل يملك الفوضويون أو الاشتراكيون الديمقراطيون أعظم الشجاعة ؟ .وقد تعمقنا في شرح أصول الفوضوية والاشتراكية الديمقراطية . وقام الفوضوي الوحيد بيننا بتمثيل الفوضوية تمثيلاً كاملاً رغم إنه لايعرف ما هو معنى الفوضوية ) .

كانت تلك بداية الفصل الثالث من مسرحية " الإنسان والسوبرمان ، وإنني لأجد الآن إنني لا أستطيع أن أقرأ هذا الفصل دون أن يصيبني شعور غريب بالقلق . وقد كانت تلك التجربة جديدة عليّ تماماً ، ولن أدعي بأن تلك التجربة قد أسرتني ، كلا ، لم يحدث ذلك ، وإنما شعرت بشيء من الضيق ولم أستطع تعقب معظم الفصل ، إلا إنني دهشت كثيراً حين عرفت إن إنساناً آخر قد فكر قبلي بالفعل وكتب عن المشاكل ذاتها التي كانت تشغل بالي " .

كان برنارد شو في السابعة والأربعين عندما انتهى من كتابة " الانسان والسوبرمان " ، عاش قبلها تجربة كتابة مقالات عن " نظرية التطور " وحاول أن يناقش الفيلسوف الفرنسي برجسون حول نظرية " التطوّر الخلاق " ، ويذكر برتراند رسل في سيرته الذاتية إن برنارد شو كان مهووساً بنظرية برجسون التي كانت تؤكد إن الحياة هي محاولة لتحرير الطاقة وهي تستخدم القوة والمادة وتتحرر في حركة مستمرة ، وبفعلها هذا تصبح حرة على الدوام ، يقول رسل إن :" حفلة غذاء أقيمت في لندن تكريماً لبرجسون دعي إليها برنارد شو بوصفه أحد المعجبين بالفيلسوف الفرنسي ، وقد أخذ برنارد شو في الحفل يعرض نظرية برجسون بأسلوب على نمط مقدمات مسرحياته ، فاعترض برجسون بلطف : أو إن الأمر ليس كذلك . ولكن شو لم يتوقف بل أجاب : أي زميلي العزيز ، إني أفهم فلسفتك خير منك . 

كان برجسون قد نشر فصولاً من كتابه " التطور الخلاق " الذي صدر كاملاً عام 1907 والذي اتخذ فيه مذهب التطوّر كأساس نهائي لاتجاهه الفلسفي. وقد حاول أن يؤول التطوّر تأويلاً روحياً، عكس ما أراد أن يقدمه تشارلز داروين في كتابه أصل الأنواع حيث قدم تفسيرات مادية للتطور ، حيث أكد برجسون إن الإنسان ليس ألعوبة في يد التنازع المادي القاسي لقانون البقاء للأصلح ، فالحياة ليست نتاج قوانين آلية ، وهي ليست كالنهر يجري بقوة ليدفع الإنسان في طريق التطور والقوة الدافعة ليست خارجة عن الإنسان ، بل هي في داخله ،" إن الحياة فنان يعمل من تلقاء نفسه " فهي تبشر في كل لحظة بأنها ستزدهر وتغدو شيئاً لم يخطر في البال ، إنها تنبع من حقيقة رائعة ، " إن جوهر حياة الإنسان الخلاقة هو الله " والحياة تدفع الى الأعلى " فالحيوان يسمو على النبات والإنسان هو الذي يبسط سلطانه على الحيوان ، والبشرية كلها مكان وزمان جيش واحد ضخم يركض بجانب كل منا وأمامه وخلفه في حملة جانحة قادرة على دك كل مقاومة وإزالة كل عقبة".

يكتب برنارد شو في تقديمه لمسرحية الانسان والسوبرمان إن :" الرغبة في عمل شيء ،هذه القوة تعمل في درجة معينة تمليها عليها الضرورة للخلق والإبداع ، فإذا كان الرياضي مثلاً وهو يعرف إنه سينزل الى مباراة ، يمكنه أن يزيد من قوته ويضيف عضلة الى عضلاته ، فمن المعقول إن فيلسوفاً مقتنعاً بأساليب هذه القوة يمكنه أن يخلق ، فكرة أو عقلاً ، ومن الجلي إذن إن الطريقين ضروريان لنهاية حتمية .. والتطور يرينا هذا الاتجاه الضروري لعمل كل شيء " ..ويضيف :" ولكننا في الإنسان ، حين نرغب في إيجاد سلالة جديدة منه ،لا نعرف ما نهدف إليه ، هل ننشد رجلاً وسيماً ، فيلسوفاً ، رياضياً مع امرأة جميلة سليمة تكون زوجته ؟ ، والجواب إن التجارب وحدها هي التي سترشدنا ، وهي تجارب لا بد تحتوي الإصابة والخطأ . ولكننا مع ذلك نتفق على إننا نحتاج إلى العقل والتفوق في السوبرمان " . 

يتحدث الإنسان السوبرمان عن فتاة جميلة من عائلة غنية ، يموت والدها ، فيتولى رعايتها وصيين ، الأول صديق للعائلة يدعى رامسدن يحمل أفكاراً تؤمن أن التغير في المجتمع لن تقوده ثورات الساسة وإنما سيقوده العلم وهو يؤمن بأفكار داروين ، والثاني يدعى تانر وهو شاب وسيم يؤمن بأن الثورة قادمة لتغيير المجتمع وقد ألف كتاباً عن مفهوم الثورة والإنسان الثوري ، ومنذ بداية المسرحية يجد المشاهد نفسه أمام صراع شديد بين الرجلين ، إلا أن الفتاة تميل الى الشاب تانر وتخطط للزواج منه ، لكنه لايؤمن بمشروع تأسيس أسرة ، فهو يهدف الى أن يتغير المجتمع بأكمله ، وهو يعتقد إن الفتاة تصلح زوجة لصديقه روبنسون، إلا أن مساعد تانر يخبره إن الفتاة تعشقه هو وليس الوصي الآخر ، فيقرر تانر أن يضع حداً لقصة الحب هذه فيهرب الى صحراء نيفادا في إسبانيا وفي الطريق يقع في أسر قطاع الطرق ، وأثناء فترة أسره يحلم ، فنجد إن المسرحية تحولت الى مسرح داخل مسرح ، ففي الحلم نرى تانر ، والفتاة آن ، كما نرى تمثالاً له ملامح الوصي رامسدن ، والشيطان الذي له ملامح شقيقة تانر ، الجميع في الجحيم ، وتتحول المسرحية الى مناقشة فلسفية ، فالجحيم عند برنارد شو ليس مكاناً للعذاب ، وإنما مجرد مكان للملذّات ، في هذه المناقشة سيؤكد الشيطان إن الرجال لم يخلّفوا سوى الحروب والدمار ، بينما المرأة حافظت على النوع البشري ، ويتشعب الحوار لنجد الجميع يناقش مفهوم الحب ، والإرادة ، والتطور وغيرها من الموضوعات ، وينتهي الحلم بأن تقرر الفتاة آن أن تنجب الإنسان السوبرمان بنفسها وسيكون على هيئة تانر .. ونعرف إن آن في الواقع تبحث عن تانر الذي يعود إليها بعد أن آمن بقوة الحياة وديمومتها .

******

استطاع برنارد شو خلال الفترة بين عام 1880 -1900 أن يقدم لنا أعمالاً مسرحية وفكرية يبيّن من خلالها إن الانسان المتمرد هو ذلك الذي يقف بين عالمين ، عالم آيل للانهيار ، وعالم ينبثق من جديد ..ففي مسرحيته الثانية التي كتبها بعد " بيوت الأرامل " وكانت بعنوان " زير النساء أو دون جوان " فإنها محاولة لتصوير جيل ثائر ، وقد اعتبر النقاد هذه المسرحية البوادر الأولى لجيل مسرح الغضب الذي تطور وترسخ مع عرض مسرحية جون أوزبورن الشهيرة " انظر الى الماضي بغضب " ، بعدها سيقدم مهنة السيدة براون ثم مسرحية السلاح والإنسان التي يسخر فيها من عبارات القومية والوطنية ، أما رجل الأقدار التي كتبها عام 1895 ففيها شخصية نابليون ويسلط الضوء من خلالها على أنانيته ، الإنسان وحب العظمة ، وتفاهة الحياة الشخصية للدكتاتور ومن يعتقد إنه البطل الأوحد .

بعدها بعام سيقدم مسرحية " كانديد " التي يستعير اسمها من رواية شهيرة لفولتير ، وفي هذه المسرحية نتعرف على شخصية المتمرد ، والإنسان اللامتمرد ، حيث نحن بمواجهة رجل دين عصري شديد الصبر ، وفي الطرف الآخر شاعر شاب متمرد غير واثق من كل ما يدور حوله فهو يثور في وجه رجل الدين قائلاً :" فهل إن اعتدالك وسموّك علي ّ يثبتان إنني على خطأ " . 

يكتب إريك بنتلي إن ثورة برنارد شو تشترك مع ثورة أشد المتمردين تطرفاً ، لأنها " مندفعة بميول خلاصيّة قوية " . فإن برنارد شو الساخط أشد السخط على ما يجري في العالم ، يكرس نفسه لإحداث ثورة في وعي العصر الذي يعيش فيه . كان برنارد شو يشمئز مثل نيتشه ، من ضعف الإنسان ، ومن حقارة الإنسان وبلادته ، وكان مثل جان جاك روسو على وعي تام بفساد النظم الاجتماعية والسياسية المعاصرة ، وكان أيضاً مثل مثله الأعلى إبسن ، ناقماً على زيف المجتمع والتقاليد .. إن عقيدة السوبرمان التي يطرحها برنارد شو تبيّن أن صاحبها يقدم برنامجاً مفصلاً للإصلاح يستهدف الخلاص الأخلاقي والسياسي والديني . إن عقيدة السوبرمان التي يروج لها برناردشو هي عقيدة نابعة من سخط برنارد شو على الطبيعة الأساسية للانسان والمجتمع ، مثها مثل عقيدة التطور الخلاق التي أعلنها برجسون وروج لها برنارد شو هي عقيدة تؤمن بتطور نمط جديد للحياة .. إن برنارد شو بوصفه متمردا ً، غير راضٍ عن أية منظمة اجتماعية يديرها بشر يرتكبون الأخطاء كل دقيقة ، أما بوصفه اشتراكياً فابياً فانه ملتزم بنوع من النظام الاجتماعي يؤمن بإقامة مجتمع عادل .

في الإنسان والسوبرمان يكشف لنا برنارد شو على لسان دون جوان ملامح شخصية المتمرد :" – أقول لك إنني حين أدرك شيئاً أفضل مني فإنني لا أستطيع أن أشعر بالراحة إلا حين أكافح من أجل تحقيقه في الوجود أو التمهيد إليه . وهذا هو قانون حياتي ، وهذا ما يتركه طموح الحياة الذي لا ينتهي في إعماقي لإدراك ذاتي أوسع وأعمق ولفهم أشد وضوحاً . وقد كان سمو هذا الهدف هو الذي جعلني أنظر الى الحب باعتباره لذة لحظة " ... في مقدمة مسرحيته العودة الى ميتوشالح يدعو برنادشو الى دين جديد :" كنت أعرف دائماً إن الحضارة تحتاج الى دين وإن حياتها أو موتها يتوقفان على ذلك " . ثم يسأل : أي دين ؟ ويجيب إنه دين يدعو الى الحيوية . إنه الدين الذي ينبذ الخرافة .. وقد استأثرت مقدمة برناد شو هذه باهتمام المفكرين فكتب الدوس هكسلي إن هناك نوع من الحقيقة في كل دين ، وإنه من الممكن إيجاد دين عالمي من ذلك كله ، فيما بحث أرنولد توينبي في فكرة برنارد شو هذه في كتابه " المؤرخ والدين" .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top