د.قاسم حسين صالح
لنبدأ بتحديد مفهوم التحرش الجنسي ولنعتمد تعريف المركز المصري لحقوق المرأة بأنه "كل سلوك غير لائق له طبيعة جنسية يضايق المرأة أو يعطيها إحساساً بعدم الأمان..
يأخذ صيغة من الكلمات غير المرحب بها أو الأفعال ذات الطابع الجنسي والتي تنتهك جسداً أو خصوصية أو مشاعر شخص ما وتجعله يشعر بعدم الارتياح، أو التهديد، أو عدم الأمان، أو الخوف، أو عدم الاحترام، أو الترويع، أو الإهانة، أو الإساءة، أو الترهيب، أو الانتهاك ".ونضيف بأن التحرش الجنسي هو إكراه على فعل جسدي ،أو وعد غير لائق أو غير مرحب به بمكافآت مقابل خدمات جنسية.وهناك تعريفات أخرى تختلف باختلاف الثقافات.
أسبابه التقليدية:
تحدد الدراسات العلمية أهم أسباب التحرش بـ: سوء التربية الأسرية والحالات الناجمة عن التفكك الأسري،الكبت الجنسي واعتبار التحرش وسيلة ترفيهية من العناء،ثقافة مجتمعية متخلفة تزود المراهقين بفكرة أن التحرش يعدّ نوعاً من الرجولة،ضعف الوازع الديني،عدم وجود عقوبات قضائية رادعة،وجود تاريخ سابق من التحرشات الجنسية أو تاريخ إجرامي أو تاريخ من الأمراض النفسية.
أسبابه العراقية
بهدف تحديد أسباب التحرش الجنسي في مجتمعنا العراقي ،توجهنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأكثر من استطلاع..لحضراتكم نماذج من الأجابات:
· احسان الفرج:ثمة انهيار تام لمنظومة الأخلاق يمر بها المجتمع العراقي ولن تنفع أية حلول آنية للحد منه.
· أمير القيسي: عملنا بحثاً عنه في الجامعات واقتصر على الطالبات وكانت النتائج إن التحرّش الجنسي موجود وله عدة مظاهر وموجه نحو الطالبات من قبل بعض الطلبة وقلة جداً من التدريسيين ولكنه لا يشكّل ظاهرة.
· هدى العزاوي:نعم ظاهرة اجتماعية ظهرت على مجتمعنا خلال ال 15 سنة الماضية، أسبابها انهيار الحكم، وضياع التوازن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ،أدى الى الاستهانة بالقيم الأخلاقية وكذلك غياب الرادع والعقوبات.
· خالص إبراهيم:موجود ولكن ليست ظاهرة مستشرية سببه انهيار منظومة القيم الاجتماعية وطريقة اللبس والمكياج واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة لا تتناسب مع قيم المجتمع العراقي الأصيل وغياب الوازع الديني والفارق في المستويات المادية للمجتمع.
· أمل التميمي:تحرش الرجل العراقي بالمرأة يعتبره غنيمة يتلذذ بها.
· اكرم الانصاري:نعم موجود ولكن بسبب عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والثقافي ،ولأنه كلما زاد التديّن بالمجتمع زاد التحرّش.
· عامر المعموري:التحرّش الجنسي والجنسية المثلية ظواهر شاذة في ظروف ضياع القيم الناجم عن ضياع السياسي والأمني والمجتمعي بسبب اناس لم يحسنوا إدارة البلد.
· د جمال العزازي:75% من جانب الانثى بسبب التبرج بأشكاله المختلفة الناجم عن انهيار الأخلاق الحميدة وعدم مخافة الله من الطرفين. الحجاب أمر الهي في حالة الالتزام سيكون الاستقرار الاجتماعي الرقيب الداخلي أقوى من الخارجي.
· نضال السعدي:الانغلاق المجتمعي بسبب تحريم الأديان وأسلمة المجتع.
· إبراهيم ملا :تشهد هذه الأيام تحرش البنت بالولد، وحالما يتم التواصل تستنفر العشائر امكانياتها لتبدأ المشكلة الكبرى حيث يتم التشهير بالبنت مقابل حفنة ملايين.
· حسين راشد الجبوري:أصبح ظاهرة وسببها زيادة في المعروض الانثوي الذي قلل من شموخ المرأة حتى أضحى بعض الرجال لا يقيمون لها وزناً من الاحترام بعد ان كانت سوراً منيعاً .
· انس الغزي:اضطراب السياسة أدى الى غياب القانون مع توافر مصادر تشجيع الرغبات وغياب الواعز الديني وضعف المؤسسة التعليمية .
تحليل واستنتاجات
اختلفت الآراء ما إذا كان التحرش الجنسي في العراق أصبح ظاهرة أم لا،وهذا يعود الى اختلاف مناطق المستجيبين،ففي الناصرية،مثلاً،لا يعد ظاهرة فيما يعد ظاهرة في العاصمة بغداد بحسب المستجيبين.واتفق المستجيبون على وجود الأسباب التقليدية للتحرّش في المجتمع العراقي،مضيفين لها بطالة الشباب،وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
وعلمياً،يعدّ التحرش حالة معقدة يتداخل في دراستها الطب النفسي ،علم النفس ،علم الأجتماع،العلوم الجنائية، وعلوم الدين.وهو حالة موجودة في كل المجتمعات بما فيها المجتمعات الأوروبية،لكن نسبتها تختلف إذ تبلغ بحدود 5% في المجتمعات الأوروبية،فيما تزيد على 80% في المجتمع المصري،وتشكل ظاهرة مقلقة اجتماعياً ومتعبة انضباطياً للأجهزة الأمنية في دول عربية واسلامية..وللأسف فأننا لا نمتلك مؤشرات احصائية عن حجم وجوده في العراق.
وعراقياً،كانت أول (حملة) للحد منه حصلت في سبعينيات القرن الماضي يوم قامت شرطة الآداب بصبغ سيقان من تلبس (تنورة) قصيرة من طالبات إعدادية الحريري بـ(البويه) .
وفي الثمانينيات عملت خبيراً بمركز البحوث التابع لوزارة الداخلية،وكانت وقتها قد زادت حالات التحرش، فعمدنا الى التحقق من الأسباب ميدانياً بينها أن لون الملابس التي ترتديها الفتاة يشكل سبباً. فتم تكليف فتاتين تعملان بالوزارة ارتداء ألوان مختلفة وكانت احداهما تقف بمدخل جسر الصرافية (محمية من مفرزة شرطة بمكان خفي)..فتبين ان اللون الأصفر جذب سائقي السيارات الخصوصي الى التوقف عند (فتاة الأختبار) يليه اللون الأحمر. وتبين لنا ان الفتيات اللائي يمشين في الشارع ويتناولن الآيس كريم (الموطه) يتعرضن للتحرش،وكانت أحدى إجابات الشباب :
-(دكتور اذا هي تمص موطه وتمشي تتمايل اشلون ما اتحرش بيها !)
وقد نوقشت الدراسة في ندوة علمية دعوت لحضورها الصديق الراحل الدكتور علي الوردي وكانت احدى تعليقاته الجريئة قوله باننا اذا منعنا الاختلاط بين الجنسين فان الذكور سيلجؤون الى اللواط والإناث الى السحاق.
وعلمياً،ليس صحيحا تحميل المسؤولية لطرف دون آخر،فكل الأطراف مسؤولة بدءاً من الفرد،شاباً كان أم فتاة،مروراً بالأسرة،والمؤسسات التربوية وصولاً الى السلطة..غير ان نسب هذه المسؤولية تتباين من طرف الى آخر.
واللافت إن التحرّش الجنسي بنسخته العراقية!أفرز ثلاث مفارقات:
الأولى : إن كثيرين أشاروا الى غياب الوازع الديني..والمفارقة..أن الدولة تحكمها أحزاب الاسلام الساسي وهنالك أكثر من خمسين فضائية عراقية بينها من يملكها قادة أحزاب اسلامية وأخرى يملكها معممون!
والثانية: إن التحرش الجنسي أصبح قضية عشائرية،إذ يطلب من المتحرش دفع ملايين الدنانير لعشيرة البنت التي تحرش بها،أو إجباره على الزواج منها.
والثالثة: إن كثيرين يدعون الى الحجاب بوصفه وسيلة ضامنة ضد التحرش الجنسي،فيما أفادت محجبات عراقيات بأنهن تعرضن الى التحرّش.
والاستنتاج (العراقي الجديد) هو أن التحرش الجنسي..أزمة قيم ناجمة عن ازمة سياسة،تتعلق بالضمير الاخلاقي تحديداً.فما لا يدركه كثيرون إن افدح كوارثنا الاخلاقية والاجتماعية هو ما حصل (للضمير العراقي) في السنوات الأربعين الأخيرة،بوصفه (القاضي) الذي يحاسبنا على أخطائنا،او(الحارس) أو (الرادع) الذي يردعنا حين نهم في القيام بعمل غير أخلاقي.
وتشير الدراسات الاجتماعية عبر التاريخ الى أن ألد ثلاثة أعداء للضمير هي:الحروب والظلم والكراهية،وأن افدح الاضرار الاجتماعية للحرب الطويلة إنها تحدث تخلخلا في المنظومات القيمية للأفراد ،وتضعف الضمير عند كثيرين ،وتهرِئهُ عند آخرين،وتدخله في غيبوبة عند أغلبية مطلقة..فكيف بالعراقيين الذين خبروا أربعة حروب كارثية في الأربعين سنة الأخيرة.فضلاً عن إننا نفتقد الحاكم القدوة،بل إن البرلمان الذي ينبغي أن يكون ممثلا للشعب في الأخلاق أيضاً،صار مضرب الأمثال في الفساد المالي والأخلاقي.
ومع إن بعض الدول اتخذت اجراءات صارمة بحق المتحرش جنسياً في العمل الوظيفي ،فان دولاً أخرى بينها العراق ما تزال اجراءاتها دون مستوى الحد منه.فالمشرّع العراقي،وفقا للدكتور رياض السندي( لم يورد تعريفا محددا لـ (التحرش) في قانون العقوبات العراقي رقم 111لسنة 1969 المعدل النافذ، بل أورده ضمن الجرائم المخلة بالاخلاق والآداب العامة حيث نصت المادة 402 منه على ان:
1. يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على ثلاثين ديناراً أو باحدى هاتين العقوبتين :
أ. من طلب أموراً مخالفة للاداب من آخر ذكرا كان أم أنثى،
ب. من تعرض لأنثى في محل عام بأقوال أو أفعال أو إشارات على وجه يخدش حياءها.
ويضيف بأن تعريف التحرش الجنسي ورد (في قانون العمل العراقي رقم 37 لسنة 2015 النافذ بأنه اي سلوك جسدي أو شفهي ذو طبيعة جنسية، أو أي سلوك آخر يستند الى الجنس ويمس كرامة النساء والرجال ويكون غير مرغوب وغير معقول ومهيناً لمن يتلقاه ويؤدي الى رفض أي شخص أو عدم خضوعه لهذا الوضع صراحة أو ضمناً لاتخاذ قرار يؤثر على وظيفته،ونصت في المادة 11 منه بعقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على مليون دينار أو باحداهن). ومع ان هذه العقوبة تبدو مقبولة لكنها تتعرض لأنتهاكات في التطبيق فضلاً عن عدم وجود ثقافة إعلامية تشيعها بين الشباب بشكل خاص.
ولأن إصلاح العملية السياسية في العراق أمر صعب ما يعني انها ستبقى منتجة للأزمات فان هنالك أربعة مصادر قوية يمكنها أن تحول دون تحوّل التحرش الجنسي الى ظاهرة تتمثل بالأسرة لاسيما متابعة الفتاة من حيث نوعية ملابسها، مساحيق الزينة،وطريقة مشيتها في الأماكن العامة،والحركات ونظرات العيون وكل ما يجذب المتحرّش أو يفهمه بأنها دعوة ليتقدم،والمؤسسات التربوية،ووسائل الأعلام،ورابعها خطباء الجوامع والحسينيات.
ولتحقيق ذلك،فأن الأمر يتطلب عقد ندوة علمية تخرج بتوصيات ملزمة،يشارك فيها ممثلون عن الحكومة(وزارة الداخلية)،ومجلس النواب،وأكاديميون ورجال دين..ونقترح على وزارة الثقا فة أو وزارة التعليم العالي ممثلة بمركز البحوث النفسية.. القيام بهذه المهمة الأخلاقية النبيلة.