TOP

جريدة المدى > عام > الذَّائقة الشِّعريّة: المؤشِرات والكوامن

الذَّائقة الشِّعريّة: المؤشِرات والكوامن

نشر في: 18 يونيو, 2019: 08:14 م

د. نادية هناوي

ليس يسيرًا أنْ نضعَ الأصبعَ على موجهاتِ الذّائقة الشّعريّة ومعاييرها، فهي إنْ كانت حاضرة في كل تجربة إبداعية؛ بيد أن القبضَ على حيزها الذي تمتد فيه والاحاطةَ بكينونتها التي تتمظهر فيها،

أمرٌ بالغُ التعقيد وعسيرُ المنال. والذّائقة ترافقُ الإبداع الشعري وهي ليستْ وليدة يومنا ولا هي صنيعة جيل أو أجيال سبقتنا أو موضة تتغير كل آن وتتبدل كل أوان؛ بل هي موجودة بوجود الشعر، ودائمة بدوامهِ لا ترتبط بحد أو أفق، قد تنهض ثائرة مبتهجة أو تسكن منزوية صامتة. وهي متغلغلة في لا وعينا ومتسربة في وجداننا متسمرة جينالوجيا فينا، تستثار عندنا أما طرباً بتنسيق لفظي أو إعجاباً بانتظام دلالي أو تماشياً مع انسجام إيقاعي أو استحضاراً لصور ليست متداولة.

ومن العلامات المعروفة الدالة على استجابة الذائقة الشعرية للذي تسمعه أو تراه، التعبير الشفاهي العلاني بكلمات وجمل من قبيل ( الله أو أحسنت أو صح لسانك أو عشت أو تعيش أو اعد ). وهذا التعبير إشهار بأن ما تم سماعه يجاذب الكوامن الوفاق، ويبادل المدخرات الذوقية القبول والاستحباب. وأن المسموع كان مطابقاً لمعايير الجمال والنجاح. 

ومرتع الذائقة الذهن ومادتها الإحساس، وتوجيه الذهن للإحساس يعني استثارة كوامن التذوق التي هي ليست محددة في لائحة أو متموضعة في قانون أو دستور، إذ لم يجند لمهمة وضع بنودها ومعاييرها واضع محدد، كما لم توكل عملية صياغتها إلى صائغ معين؛ وانما تتقولب كوامن الذائقة ذاتها وتتحدد معاييرها من خلال إرادة جماعية تتوزع بفردية، سبرت العصور فادخرت في أذهاننا مخزونة وهي تكتسب من الظروف المعيشة سمات تجعل مخزوننا الذوقي مستمرا بالنماء، ولذاك لا عمر للذائقة فهي قديمة حديثة معًا، حتى إذا استثير هذا المخزون اختلطت فتوة الجديد بوقار القديم، ولا سبيل للمرء أمام تلك الفتوة وذلك الوقار؛ إلا التسليم والطاعة. 

وعلى الرغم من أن كوامن الذائقة عتيدة ومضافاتها كثيرة؛ فإنها حين تستدعى تهب جميعها سريعا مستثارة بالدرجة نفسها ناهضة من رقادها بلمح البصر.

والناس في امتلاكهم للذائقة مدخرة أو مستنهضة سواء، وهذا لان الذائقة اختزنت في اذهانهم بصورة جماعية فتوزعت معاييرها ومقاييسها على أحاسيسهم. وهذه الميزة الجماعية تجعل الذائقة أما حاضرة واردة لديهم أو مغادرة شاردة عنهم. ولا تعني الجماعية التمام الكلي في امتلاك الذائقة، إذ أن هناك استثناءات تجعل عقال الذائقة ينفلت لدى بعض الناس فتكون معايير التذوق عندهم بالضد من معايير المجموع ولهذا قيل قديماً( لو تساوت الأذواق لبارت السلع) ويظل هذا التفاوت في الأذواق بمحدودية عامة. وبسبب المحدودية لا يعتد بهذا التفاوت ولا يحسب له حساب.

والذائقة إذا ما طالت مدة استكانتها لعدم وجود مثير ما يستثيرها؛ فإنها تستكين وقد تذوي وتموت ومن ثم لا تعود لها فاعليتها ويصبح صاحبها فاقد الإحساس، وقد خرجت مجسات التذوق لديه عن العمل وتعطلت وصارت عديمة الفائدة. وتعمل الذائقة الشعرية بوصفها حاسة ميتافيزيقية على إيقاظ المشاعر واستفزاز الأحاسيس. وذلك عندما تستثار كوامنها سماعياً بالكلام المنسجم الإيقاع والمزوق التراكيب أو بصرياً بالكتابة المنمقة الترتيب والتنظيم، والصور المتجاوزة للمألوف، وهذا ما يربي في النفس الإحساس بالجمال والاستمتاع به، ومن دون وجود الذائقة تذبل المشاعر وتتحجر الأحاسيس، وتصبح النفس جلفة غليظة لا تعرف للجمال طعما ولا لوناً. 

وصحيح أن قناتي التوصيل والاستقبال السمع والنظر هما الحاستان الفيزيقيتان اللتان عبرهما تستفز الذائقة، إلا أن الذائقة في اشتغالها تظل ذهنية وليست حسية. ومن ثم لا يعمل السمع والنظر إلا كموصلين للاستثارة. وقد يذهب الظن إلى أن التلقي بقناة السمع أسرع من التلقي بالنظر، لكن المتحقق علمياً أن الأذن هي الأبطأ في تلقي الإشارة من العين التي هي أسرع منها في ذلك، والسبب أن سرعة الصوت في تردده أقل بكثير من سرعة الضوء في مروره مخترقاً ذرات الهواء بأواصره المتأينة وغير المتأينة. وهذا يعني إن المنظور يُتلقى أسرع من المسموع، وإن التذوق السماعي بالأذن يتأخر وقتا عن التذوق المرئي بالعين.

بيد إن ما نلمسه على مستوى التلقي الشعري هو أن الذائقة تكون بادية للعيان عندما تستنهض صوتيا بسماع القصيدة أكثر منه عندما تستفز ضوئياً بمرأى القصيدة منظوراً إلى أسطرها وألفاظها وتراكيبها المتلفظة في الذهن صمتاً أو المنطوقة عند القراءة جهراً.

لعل السبب يكمن في أن التوصيل البصري للشعر قراءة يقوم على تذوق المرئي بوصفه مسموعا أولا على وفق مبدأ المطابقة حيث الدال يساوي المدلول الأول، ولا تكتمل عملية التذوق إلا بترجمة هذا المسموع من صورته المباشرة إلى صورة غير مباشرة، على وفق مبدأ المجاوزة حيث المدلول الأول يساوي مدلولاً ثانياً.

بينما يختصر التوصيل السماعي للشعر المرحلتين السابقتين بمرحلة واحدة وهي تذوق المسموع المباشر كمسموع غير مباشر. وبذلك تختصر عملية التلقي السماعي الطريق لاستثارة الذائقة، فضلا عن الدور الذي يلعبه الالقاء والحركات والايماءات في توجيه الذائقة توجيها موجباً، فإذا كان الصوت الشعري المسموع ذا إلقاء معبر أسهم في حض الذائقة على الاستجابة بشكل أسرع، وكلما كانت ايقاعات القصيدة المسموعة متوازنة ومتسقة سلسة وتلقائية حفزت الذائقة أكثر على القبول والمطاوعة. لكن إذا كانت تلك القصيدة نفسها مقروءة، فان الذائقة ستستجيب بشكل أقل سرعة. وإن كان القبول أو عدمه هو ذاته في حالتي التوصيل السماعي والبصري. 

وللإلقاء دور مهم في نجاح التلقي الشعري، فإذا تلكأ الإلقاء في أداء دوره فقدت عملية التلقي درجة التذوق المباشرة ودخلت في المباشرة أولا ثم غير مباشرة ثانيا، مهما كانت الايقاعات متسقة ومنسابة تماما كما في التلقي البصري. وفي الأغلب يفقد إلقاء القصائد الدلالية دوره التوصيلي حتى إذا ما ألقيت على رؤوس الأشهاد كانت درجة استثارتها للذائقة غير مكتملة على المباشر ومكتملة باللامباشر. ولأن النبر والتنغيم والإدغام للصوائت والصوامت هي محفزات سماعية سريعة وآنية، لذا يكون التحفيز في الذائقة متحققا بشكل أسرع في القصائد الصوتية منها في القصائد الدلالية. 

وعلى الرغم من أن هذا التميز في الالقاء يأتي لصالح القصيدة الموزونة الأمر الذي يجعل الاعتقاد السائد أن الوزن معيار من معايير الذائقة الشعرية وأساس مهم من أسس نجاحها؛ إلا إن الأمر مختلف بعض الشيء. والسبب أن ذلك الاستنتاج إنما يتأتى على المستوى الشفاهي فقط.

أما على المستوى القرائي؛ فالأمر مختلف، إذ ستستغرق عملية قراءة القصيدة أيا كانت موزونة أو غير موزونة مرحلتين مندمجتين مرحلة رؤيتها نصا كتابيا مرئيا ثم مرحلة تحويلها إلى نص صوتي مسموع دالا ومدلولا، وهذا ما يجعل تحفيز الذائقة متأنياً غير متعجل. 

وبناء على ما تقدم يغدو التذوق البصري اكثر استقرارا ورسوخا واوثق استمكانا وثبوتا من التذوق السماعي. والنتيجة أن الذائقة السماعية وقتية غير متمهلة بينما الذائقة القرائية مداومة ومتئدة.

وما ينبغي الالتفات إليه هو ضرورة إعادة تقييم معايير الذائقة الشعرية نقديا وإدراكها بلا لبس أو إيهام. وصحيح أن الإلقاء وسيلة بها يبلغ الشعر غايته وهي التوصيل لكنه ليس معيارا وحيدا به يقيّم الشعر موجها الذائقة نحو القبول أو عدم القبول.

بعبارة أدق إن ارتكاننا على الذائقة القرائية كتابيا هو أبقى أثرا من ارتكاننا على الذائقة السماعية شفاهيا، كون الكتابة أبقى من المشافهة وأرسخ. وقد يُعترض على هذا التوصل بأن ذلك يعني أن لا حاجة بعد الآن للإلقاء، وأنه بانتفاء حاجتنا للإلقاء ستفقد المنصة المنبرية أهميتها وتنعدم وظيفتها الجماهيرية في الابلاغ والتلقي. ونرد بأن الإلقاء لا يمكن الغاؤه بوصفه وسيلة مهمة من وسائل التوصيل الشعري، بيد أن اعتماده معيارا أوحديا في تقييم الذائقة الشعرية، هو ما ينبغي أن نلغيه من أذهاننا ونعلم أن الذائقة الشعرية ليست وقتية طارئة إنما هي ايحائية مستمرة. وليست المهرجانات والملتقيات والفعاليات سوى وسائل للتوصيل الشعري، لكن ليس عليها وحدها يتوقف تقييم الذائقة الشعرية بعامة.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

سقوط 3 شهداء في انفجارات لبنان

انفجارات جديدة بأجهزة اتصال لاسلكية لعناصر حزب الله في لبنان

البرلمان يؤجل انعقاد جلسته

السفيرة الأميركية: العراق قادر على خلق نموذج اقتصادي يحتذى به

تصاعد أزمة السكن في العراق.. نقص الوحدات السكنية يهدد مستقبل ملايين المواطنين!

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مسرح ذهني للقرّاء

جواهر سينمائية.. توثيق لحياة ثلاثة رموز سينمائية

هيثم فتح الله: تأثيرات الفن التشكيلي على أسلوبي كانت واضحة، بنقل الفوتوغراف إلى لوحة فنية

مسرحية هيكابي.. نظرة في المشهد التمهيدي

الفعاليات غير النفعية مهمة لحياة البشر

مقالات ذات صلة

الفعاليات غير النفعية مهمة لحياة البشر
عام

الفعاليات غير النفعية مهمة لحياة البشر

أدار الحوار: سوزان كروغلينسكي ترجمة: لطفية الدليميتقديم المترجمة:الحوار التالي ترجمة لمعظم فقرات الحوار المنشور بمجلّة Discover بتأريخ 13 يناير (كانون ثاني) 2007، وتمّ تحديثه بتأريخ 12 نوفمبر (تشرين ثاني) 2019 (بعد وفاة منسكي). سيلمس...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram