ترجمة : لطفية الدليمي
القسم السادس عشر - الأخير
17
ميراث آلان
ثمة أمر واحد مؤكّد ومُسَلّمٌ به من الجميع :
بالرغم من أنّ آلان تورنغ يُعَدُّ من قبل كثيرين " أب الحاسوب الحديث " ؛ فإنّ شهرته الذائعة ستبقى دوماً لصيقة باعتباره عبقري مركز بليتشلي بارك الذي تمكّن من فتح شفرة إينيغما الألمانية ، ويرى الكثير من الخبراء المميزين في ميدانهم أنّ العمل الجبّار الذي إضطلع بأدائه آلان تورنغ وفريقه العامل معه في فتح تلك الشفرة قد ساهم مساهمة مباشرة في تقليص مدّة الحرب ( العالمية الثانية ) في أوربا من سنتيْن إلى أربع سنوات بحسب التخمينات السائدة .
الكابتن ( النقيب ) جيري روبرتس Jerry Roberts من البحرية الملكية البريطانية يذهب أبعد بشأن مساهمة آلان تورنغ في تقليص فترة الحرب ، وكتب بصدد ذلك قائلاً :
كانت الغواصات الألمانية في عام 1940 نشيطة نشاطاً فعالاً وعظيماً في إغراق السفن الحاملة لشحنات طعامنا وكذلك تلك الحاملة لشحنات أسلحتنا وعتادنا الحربي في كامل أرجاء المسطّحات المائية المعروفة في العالم ، ولم تتوقف تلك الهجمات الفتاكة من جانب الغواصات الألمانية حتى إستطاع تورنغ فتح شفرة إينيغما التي تستخدمها تلك الغواصات ؛ إذ عرفنا حينها أماكن تموضع الغواصات الألمانية في المحيط الأطلسي وبكيفية مكّنت قوافل سفننا البحرية من تجنبها . لو أنّ ذلك الأمر لم يحصل بالكيفية التي حصل بها لكان أمراً عظيم الإحتمال ووارداً للغاية أنّ بريطانيا كانت ستعاني مجاعة فائقة تدفعها بالضرورة إلى خسارة الحرب .
يتشارك الكثيرون هذه الرؤية ، ويكاد أن يتفقوا على الإجماع بأنّ تورنغ لو لم ينجح في فتح الشفرة الألمانية لربحت ألمانيا النازية - ربما - الحرب العالمية الثانية .
حصل في 10 سبتمبر ( أيلول ) 2009 ، وكاستجابة لإلتماس مرفوع إلى الحكومة البريطانية بتقديم إعتذار معلَن إلى آلان تورنغ بعد موته بسبب الإضطهاد الذي عومل به من قبلها لكونه مثلياً ، أن تقدّم رئيس الوزراء البريطاني آنذاك غوردون براون Gordon Brown بتوجيه الكلمة الحكومية الرسمية التالية بشأن محاكمة آلان وعقابه :
ليس من قبيل المبالغة ، أبداً ، القول بأنّ تاريخ الحرب العالمية الثانية كان سيتخذ مساراً مختلفاً للغاية لولا الجهد العظيم الذي بذله آلان تورنغ من خلال مساهمته الفذة في الجهد الحربي البريطاني ؛ وعليه فإنّ الدّيْن العظيم من الشكر والإمتنان الذي يترتّب علينا تجاه تورنغ يدفعنا إلى التصريح بطبيعة التعامل الموغل في النزوع المفتقد لأبسط أشكال الإنسانية المستحقة له ( من قبل الحكومة البريطانية ) . أدين تورنغ في عام 1952 بتهمة " إرتكاب فعل شائن كبير " ، والحقّ أنه حوكم بسبب كونه مثلياً . تمثلت عقوبته ( التي لم يمتلك خياراً بائساً بديلاً لها سوى بالذهاب إلى السجن ) في القبول بالإخصاء الكيميائي من خلال سلسلة من الحقنات بالهورمون الأنثوي ، وحصل عقب سنتيْن من هذه الواقعة أن أقدم تورنغ على الإنتحار .
ثمة الآلاف من الأصوات الداعية اليوم إلى إنصاف تورنغ وطلب العدالة له والإعتراف بالطريقة المروّعة التي عومل بها ( من جانب الحكومة البريطانية ) ؛ ومع وضعنا في الحسبان أنّ تورنغ عومل بموجب القوانين السائدة في تلك المرحلة وليس بمقدورنا العودة بعقارب الساعة إلى الوراء ؛ لكن هذا الأمر لايعني في أقلّ تقدير أن نُحجِم عن الإعتراف بالطريقة غير العادلة التي عومل بها تورنغ ، وأراني راضياً كل الرضا بسبب الفرصة التي أتيحت لي للإعلان عن مدى الأسف العميق الذي أشعر به أنا وكلّ أعضاء الحكومة البريطانية بسبب ماحصل له .
إنّ واجب إبداء الشكر المستحق والإمتنان العميق لهؤلاء الذين كرّسوا أنفسهم تكريساً كاملاً لمحاربة الفاشية ، الذين هُمْ على شاكلة آلان تورنغ ، لهو ديْنٌ واجب علينا وبخاصة بعد أن صارت أهوال الإبادة البشرية والحرب المدمّرة الشاملة جزءً من تأريخ أوربا بدلاً من أن تكون معالم من حاضر أوربا الذي نعيشه اليوم .
لذا ، وبالنيابة عن الحكومة البريطانية وكلّ هؤلاء الذين ينعمون
بالعيش الحر بسبب الجهد العظيم الذي ساهم به آلان تورنغ ؛ فإنّ الفخر يتملّكني ويدفعني للقول : آلان ، نحن آسفون لك ؛ فقد كنت تستحقّ معاملة أفضل بكثير من جانبنا .
إنّه لأمرٌ مدهشٌ حقاً أن نتفكّر ملياً فيما كان يمكن لآلان تورنغ أن ينجزه ، والإنعطافات الثورية في علوم الحاسوب التي كان يمكن أن يحققها لو أنه لم يفارق الحياة في تلك السنّ الصغيرة نسبياً والتي لاتتعدّى الواحد والأربعين عاماً .
إمتلك تورنغ الريادة في موضوعة ( الآلات المفكّرة ) ، وطوّر بالفعل نماذج بدائية من آلات تتحدّث الكلام البشري المنطوق وتفهمه ، كما حقق تطويرات مهمة في ميدان الذكاء الإصطناعي ، ودفع علوم الحاسوب لآفاق بعيدة ساعياً في نهاية المطاف إلى تحقيق هدف لم يكن يعلمه أحد سواه . ماعساه يكون ذلك الهدف المرتجى ؟ أهو حاسوب بشري - عضوي هجين ؟ أم آلة تصمّم نفسها وتنتج نسخاً مطوّرة منها ؟
ميراث ( آلان تورنغ ) خالد ، وسيبقى معنا إلى الأبد .
تعليقات الزوار
ليث صالح
للسيده لطفي الدليمي أبدعتم في مقالتكم لتنوير المجتمع بعظماء العلم ... ليرى مجتمعنا حقيقة تخلفنا العلمي .. الذكاء الاصطناعي معروف في اربعينيات القرن الماضي ..... بارك الله بكم ......