المتمردون..العالَم هو كل ما يستطيع الإنسان أن يقول عنه : هذا ضجيج !!

المتمردون..العالَم هو كل ما يستطيع الإنسان أن يقول عنه : هذا ضجيج !!

| الحلقة السادسة |
 علــي حســـين

إننا منذ وقت نعيش حالة انتكاس.. حالة تدهور مستمر
 ناتالي ساروت

قالت عنها الصحافة إنها امرأة عنيدة تريد تشكيل العالم وفق ما تتخيله ،

لكن حياة ناتالي ساروت لا تحتاج الى دعم الخيال ، فالطفلة " ناتاشا " التي ولدت بداية القرن الماضي -18 حزيران عام 1900 - في مدينة تبعد عن موسكو بثلثمائة كيلو متر ، أدمنت الخوف من الموت وهي صغيرة بعد أن شاهدت شقيقها يغرق في النهر ، لكن الموت شاكسها ليتركها تعيش قرابة القرن – توفيت في التاسع عشر من تشرين الأول عام 1999 - حاولت أن تعيش عالمها الخاص ، تتفحص في وجوه الآخرين .

تتخذ من المقهى مكاناً مفضلاً للكتابة ، والتلصص على ما يجري حولها ، لتحول هذا التلصص إلى قصص وروايات ، لا تهدف من ورائها تسلية القارئ ومنحه فسحة من الراحة والهدوء ، بل تُصر على أن تضعه في عالم مزروع بالحيرة والغضب مما يجري حوله ، في جمل قصيرة متقطعة ، خيال تؤمن بأنه الوسيلة الوحيدة للتواصل بين البشر :" الأنسان يتخيل حياته ، ويتخيل العالم الذي يعيش فيه . يخترع الحب لأن الحب لاوجود له إلا في خياله ، ومع هذا فأن الخيال ليس نشاطاً معزولاً ، إنه وسيلة للاتصال " .

عاشت ناتالي ساروت طفولة موزعة ، بين أمها التي انتقلت الى جنيف بعد أن انفصلت عن والد ساروت ، وبين أبيها الذي عاش في روسيا يكتب مقالات عن الثورة وضرورة تغيير النظام في روسيا القيصرية . في الثامنة من عمرها تستقر بشكل نهائي في باريس ، فالأب وجد نفسه مطارداً بسبب كتاباته ، فاضطر الى بيع المصنع الذي ورثه من والده والإنتقال الى فرنسا مع أحلام بافتتاح مصنع جديد .

اعتادت أن تستيقظ في الرابعة فجراً لتقرأ كل يوم في روايات دستويفسكي الذي عشقته حد الجنون ، كانت تريد أن تصبح كاتبة مثل عبقري روسيا الذي بدأت شهرته حين كان في الرابعة والعشرين من عمره بعد أن قدم للقراء روايته " الفقراء " التي قال عنها الناقد بيلينسكي إنها أشهر رواية بعد " الأنفس الميتة " لغوغول ، ليصبح تلميذ الهندسة الفاشل واحداً من أبرز كتّاب روسيا ، وستحفظ ناتالي ساروت هذه العبارة التي يقولها أحد أبطال دستويفسكي :" إن ما يجب أن أدافع عنه هو إرادتي الحرة الخاصة ، وما تستطيع هذه الإرادة أن تفيدني به حين أعود الى طبعي الحقيقي لأقوم باستخدامها آنذاك " . وستجد في مؤلفات دستويفسكي خطوات نحو فهم القوة الإنسانية . كانت ناتالي ساروت تذهب كل يوم الى أحد المقاهي القريبة وتبدأ الكتابة. وجدها الفرنسيون امراة غربية الطباع ، لكنهم انتبهوا فيما بعد إلى إنها آخر نجم أدبي كبير في فرنسا..

عام 1932 قدمت مجموعتها الأولى " انفعالات " – ترجمها الى العربية فتحي العشري – الى دار غاليمار التي رفضتها ، وكان رأي الخبير إن هذه القصص تخلو من الحياة ، بلا عقدة ، الشخصيات لا ملامح واضحة لها ، قررت أن تتحمل نفقات النشر ، ليصدر كتابها الأول بعد التنقل بين المطابع ودور النشر وبيع منه أربعمائة نسخة فقط ، لكن سرعان ما أستعاد الكتاب اهتمام القراء والنقاد حين أعيد نشره ثانية عام 1957 ليعتبر المؤسس الحقيقي لحركة الرواية الجديدة . 

في الخامسة عشرة من عمرها غير توماس مان حياتها بعد أن قرأت روايته "طونيو كروجر" ، كتب توماس مان رواية " طونيو كروجر " في العشرين من عمره وفيها يقدم لنا صورة لشاب متمرد يشعر بغربة قاتلة بين الناس ، فهو لا يشاركهم ميولهم واهتماماتهم يقول لأحد أصدقائه :" لماذا أجد نفسي في خصام مع الناس ، كأنني غريب " .. تكتب ساروت بعد قراءتها لرواية توماس مان :" أشعر بأن الوحدة تنهشني " .

درست الأدب الألماني في الجامعة ..ترفض وصف كتاباتها بالأدب النسوي :" لا أرى أن للرجال ميزة محددة " ، تأخذها العزلة بعيداً فتتوقف عن الكتابة عشرة أعوام لتعود عام 1949 وهذه المرّة رواية بعنوان " صورة مجهول " ، رفض معظم الناشرين طبعها ، ذهبت في الصباح الباكر باتجاه مقهى " لي دو ماغو " أخبروها أن سارتر يأتي إلى المكان في العاشرة صباحاً ، جلست تنتظره ، لمحته من بعيد يسير ببطء برفقة سيمون دي بوفوار ، ما أن جلس الى طاولته الصغيرة حتى اقتربت منه ووضعت أمامه مجموعة من الأوراق ، مع قصاصة صغيرة كتبت فيها إن لم تعجبك الرواية أرمي الأوراق في أقرب سلة مهملات .. بعد أيام تلتقي بسارتر الذي قرر أن يكتب مقدمة للرواية التي صدرت عام 1949 ، حيث أكد سارتر إن لدى ساروت رغبتين تكمل كل منهما الأخرى : الأولى معارضة الرواية التقليدية بمهاجمتها من الداخل والثانية اكتشاف الواقع الإنساني بلغة جديدة ووسائل نفسية جديدة ، أحس سارتر وهو يقرأ رواية ساروت إن نوعاً جديداً من الأدب يرمي خلفه بالعقدة والأحداث وطبائع الشخصيات ، ويخلق علاقات جديدة بين الذاتية والموضوعية ، يختتم سارتر مقالته بعبارة يؤكد فيها إن رواية ساروت " إحدى السمات الفريدة في عصرنا هذا ".. وتقول ساروت إن رواياتها وقصصها نشأت عبر مجهود دقيق للإحاطة بالواقع ، وقد احتاج الأمر منها شكلاً روائياً مختلفاً عن الشكل الذي تبناه روائيو القرن التاسع عشر .

*******

إن الفلسفة صراع ضد افتتان عقولنا بمعاني اللغة 

فيتغنشتاين

أُغرمت ناتالي ساروت بعبارة الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين :" إن حدود لغتي تعني حدود عالمي " ، ومثله كانت تؤمن إن وظيفة اللغة هي رسم صور عن الحقائق ، وكل ما عدا ذلك لامعنى له :" ما لا نستطيع الكلام عنه ، علينا أن نصمت أمامه " .ولد لودفيغ فيتغنشتاين قبل ولادة ناتالي ساروت بإحدى عشر عاما في السادس والعشرين من نيسان 1889 ، بمدينة فينا ، كان والده مهندساً واحد أصحاب معامل صناعة الفولاذ ، أما والدته فكانت مهتمة بالموسيقى ، كان بيتهم الكبير يضم سبع آلات بيانو ، جميع أفراد العائلة عازفون مهرة ، ومن أجل شقيقه الأكبر سوف يؤلف الموسيقي الشهير موريس رافيل مقطوعته الشهيرة " بوليرو " ، وكان الموسيقار براهامز صديقاً حميماً لوالده مثله مثل العديد من الرسامين والموسيقيين والأدباء ، الذين كان يعج بهم القصر كل مساء .. في سن العشرين باشر دراساته في مجال الهندسة ، وسافر الى مانشستر ليدرس هندسة الطيران ، فبدأت الرياضيات تستهويه ، كما ستستهويه بعد حين مسائل المنطق والفلسفة ، وسوف يتابع في كمبردج دروس برتراند رسل أخبره والده أن يبتعد عن الفلسفة لأنها مهنة غير مفيدة .

حين عين فيتغنشتاين على متن المدمرة الحربية فيستيل ، كتب أول مؤلفاته في دفتر صغير ، وسط ضجيج الآلات والتعب وتقلبات الجو ، كانت غايته من الكتاب هو إيجاد حلٍ لمشكلته مع الفلسفة ، التي أصرّ على أن الجوهري فيه هو علاقة اللغة بحل مسائل الفلسفة والمنطق ، فالجمل المجردة من المعنى وحدها تصف وقائع وأحداثاً تجري في العالم ، لكن على أي شيء يتركز العالم ذاته ، نسيجاً وحضوراً هذا هو ما يبقى التعبير عنه مستحيلاً : " أذا كان لابدّ من أن أجيب على سؤال ما الأخضر ، الذي يطرحه شخص لا يعرف عن الأخضر شيئاً فلا يمكنني إلا أن أقول ، هو هذا وأنا أشير الى شيء أخضر بإمكاننا أن نشير بالبنان الى هذا الواقع الخارج عن اللغة وأن نبرهنه لكننا لا نستطيع التعبير عنه " . يُسمي فيتغنشتاين هذا الواقع بالمجازي ، والخطأ الأكبر شيوعاً هو إرادة التعبير عن هذا المجازي الذي لا يوصف، لذا يضع مقابل هذا الوهم قاعدة تقول : " ينبغي إخفاء ما لانستطيع قوله" .

أعطى اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914 فيتغنشتاين منفذاً لرغبته في الموت ، لقد تطوّع بسرعة في الجيش ، على الرغم من وضعه الصحي ، وتراه يكتب بعد سنوات : " ذهبت الى الحرب على أمل أن يحميني الموت في المعارك من فكرة الانتحار " ، شارك في الحرب بكل قواه ، وكان من المرشحين لنيل الأوسمة عدة مرّات ، ونراه يمجّد الحرب في قصيدة قصيرة ، ويرسل الى أستاذه برتراند رسل ، رسالة يسخر فيها من دعواته للسلم ، لكن نراه يكتب بعد سنوات :" وجدت نفسي مثل العديد البشر قد أصابهم هوس الحرب " في الأسر الذي وقع عام 1918 ينهمك في قراءة مؤلفات تولستوي وتسحره الحرب والسلم ويصبح مشبّعاً بتعاليم الأديب الروسي الكبير : " الإنسان ضعيف في الجسد ، لكنه حرّ بسبب روحه " وقد تقبل فيتغنشتاين آراء تولستوي حول الجنس الذي وجد إنه يتعارض مع الحياة الروحية للإنسان ، لقد أصبحت أفكاره بعد الحرب تذهب باتجاه التديُن العميق ، وفي تلك السنوات يعثر على مؤلفات شوبنهور التي تسحره ، وتسيطر على فكره ، بحيث تكاد الصفحات الأولى من كتابه " الأطروحة " أن تكون نسخة جديدة من كتاب " العالم إرادة وتمثلاً " ، أضخم أعمال شوبنهور وتحفته في التشاؤوم واليأس .

في الأسر ينتهي من كتابه الأطروحة ، وبعد إطلاق سراحه عام 1919 يعود الى أسرته في فيينا ، محملاً بأفكار شوبنهور المحبطة ، وفي القصر الكبير للعائلة يواجه أشقائه بقرار مفاجىء ، وهو رغبته بان يصبح معلماً في إحدى المدارس الابتدائية. حيث انتقل عام 1920 الى قرية جبلية في أطراف النمسا ليهرب من العالم ، ويؤكد بعض كتّاب سيرة فيتغنشتاين إن فترات الانعزال في حياته ، ربما كانت بسبب ميوله الجنسية المتقلبة ونراه يكتب الى شقيقه قائلاً : " أصبحت الأمور تعيسة في الآونة الأخيرة .. فقط بسبب حساسية تعففي ، لقد فكرت دائما بإنهاء حياتي ، ولا تزال تلك الفكرة تراودني الآن ، لقد غرقت حتى القاع " ، وليحرم نفسه من الاستسلام للغواية والملذات ، قرر أن يمنح نصيبه الكبير من ثروة والده المتوفي الى اشقائه ، ولم يكن برتراند رسل معجباً بهذا الزهد والتخلي عن الثروة وقد قال له :" مليونير ويعمل معلما في قرية ، بالتأكيد مثل هذا الشخص إما منحرف أو أحمق " .

أمضى ست سنوات في وظيفة معلم القرية ، قطعها عام 1926 بشكل مفاجىء ، ليعود الى فيينا حيث احتفت به " الجمعية الفلسفية في فيينا " التي اعتبرت كتابه " الأطروحة " لوحاً فلسفياً مقدساً ، وكان أعضاء الجمعية ينتظرون بشغف حضور فيلسوفهم الكبير ، لكنه خيّب أملهم حيث ذهب ليعمل بستانياً في أحد الأديرة قرب فيينا ، كان يفكر بالالتحاق بالرهبان ، لكن رئيس الدير رفض طلبه ، لشكوكه بتصرفات فيتغنشتاين التي كان يراى إنها غربية وبعيدة عن الدين .

كُتبت أطروحة فيغانشتاين بطريقة مختصرة جداً وفي سبع وخمسين صفحة فقط ، وأراد من خلالها أن يتناول قضايا المنطق والرياضيات وعلم ما وراء الطبيعة والتصوّف ، عندما التحق فيتغنشتاين أخيراً بمناقشات الجمعية الفلسفية في فيينا عام 1927 لم يرقَ له أعضاء الجمعية الذين وجدهم سوقيين ويلبسون بشكل سيئ ، وكان تفكيره الذي لم يهدأ على الرغم من إنه لم يكتب شيئاً في الواقع ، كان يتطور بطرق لا يستطيع التعبير عنها بشكل سهل ، حيث بدا بالابتعاد عن نظرية اللغة والتوجه نحو الوظيفة الإبداعية للغة وللعديد من الطرق التي يمكن استخدامها بها ، ومن الآن أصبحت اللغة تفهم عبر المراقبة ، بدلاً من التحليل ، وكان فيتغنشتاين يعتقد إنه لم يحل جميع المشاكل بكتابه " الاطروحة " ولهذا أدرك آنذاك إن هناك المزيد من التفكير الذي عليه القيام به وحسب أحد المقربين منه :" كان لايحتمل أي اختبار نقدي من الآخرين ، ما أن يحصل على البصيرة بفعل الإلهام ، فإن الانطباع الذي يتركه لدينا ، هو كما لو أن البصيرة وصلته من خلال وحي سماوي " ، ولأنه لم يجد سكان فيينا مستمعين ملهمين له بدا فيتغنشتاين قراءة أشعار رابندرات طاغور وهو يجلس قبالىة الجدار . 

عام 1929 تقرر جامعة كامبردج إعادته إليها ، هناك استطاع بسهولة أن يؤثر بأساتذته من جديد وقد وصف رسل الأطروحة بأنها عمل شخص عبقري ، ومع حصوله على شهادة الدكتوراه حصل على منحة محاضر ، ظل فيتغنشتاين في كامبردج حتى عام 1936 ثم رحل الى النرويج ، حيث تفرّغ لمدة عام في تأليف كتابه " أبحاث فلسفية " ثم عاد الى الجامعة ليخلف الفيلسوف مور على كرسي الفلسفة ، ولما نشبت الحرب العالمية الثانية شارك فيها فعمل في أحد المعامل الطبية ، وعاوده القلق من جديد لنراه يعتزل كرسي الفلسفة عام 1947 ، ليستقر في مزرعة بالريف الآيرلندي حيث عاش في وحدة تامة ، وهناك أكمل الجزء الثاني من كتابه أبحاث فلسفية. 

مرضَ فيتغنشتاين في تلك الفترة مرضاً شديداً ، وتبين عام 1949 إنه يعاني من مرض السرطان ليتوفى في 29 أيار عام 1951 وكان آخر عبارة قالها لممرضته :" قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة كونها متمردة ".

*****

في كتابها " انفعالات" تحاول ناتالي ساروت السير على طريق فيلسوفها المحبوب فيتغنشتاين فللغة وظيفة جديدة تجعلها تتمرد على الواقع ، ولهذا نجدها تضع لنصوصها أرقاماً بدلاً من العناوين ، وتمنح الشخصيات ضمائر بدلاً من الاسماء فهناك " هو وهي وهم وهن " ، وجميع الشخصيات تعكس حالة من الكآبة التي تلوح في الأفق ، وتقوم هذه الشخصيات أو الضمائر بحركات دقيقة ومعقدة لكي تبتعد عن الآخرين أو تقترب منهم ، وأحيانا لكي تلتصق بهم أو تهاجمهم ، وهذه العلاقات تتسم باللاشعورية ، أو الإرادية ، ولايعرف أصحابها ما الهدف منها ، لكننا نكتشف ونحن نقرأ هذه النصوص القصصية ، أن كل ما يجري هو مقصود ومخطط له بمنتهى الدقة ، حيث تؤمن ساروت إن العلاقات بين البشر دائماً علاقات عدوان ، أو سيطرة طاغية ، أو سحر أو خضوع ..وعندما سئلت عن مصدر قصصها في انفعالات قالت إن ما من شيء في حياتها انتقل الى مؤلفاتها :" لكي يكتب الكاتب رواية ، يجب أن يتأكد من أن الآخرين يشبهونه " ..لاتؤمن ساروت بالشخصية كعنصر أساس في الرواية أو القصة ، وشخصياتها محاطة بالغموض ، ولا تظهر الشخصية عندها مثلما تظهر في الروايات التقليدية ، فهي لا تشير الى طبائع الشخصيات ولا تتابع تطورها .. فالشخصية مجرد عقدة في عالم متشابك ، ومهمة الرواية هي حل أكبر عدد ممكن من الخيوط المتشابكة لهذا العالم .في العام 1956 تصدر ساروت كتابها المهم " عصر الشك " – ترجمه الى العربية فتحي العشري - وفيه تضع تصورها لمفهوم الرواية الجديدة .. وبدا الكتاب منذ صدوره أقرب الى المرجع النقدي والنظري ليس للفن الروائي الذي رسّخته ساروت فقط ، وإنّما للرواية الحديثة بشكل عام. ولعلّها عبر النصوص النقدية الأربعة التي ضمّها الكتاب تمكّنت من "تجديد النقد الأدبي" عبر الآراء التي طرحتها وناقشتها في الكتاب أوّلاً ومن دون أيّ ادعاء ثم عبر الشكل الجديد الذي تبنّاه خطابها النقدي. يبدأ الكتاب بما سمته ساروت مقالة في الرواية تبحث في ماضيها وحاضرها ، فهي تؤمن إن التناقض بين الرواية النفسية ورواية المواقف لا وجود له ، فكافكا يكمل دستويفسكي ولا يتعارض معه .. ونجدها من هذا المنطلق تحلل بعض الصفحات من دستويفسكي وتقارنها بصفحات من كافكا ، حيث تبين لنا كيف يمزق الضغط الداخلي غلاف الشخصية ، ويُحدِث انتقالاً من الخارج الى الداخل .وفي المقالة الثانية تشن ساروت هجوماً على الشخصية بالمعنى الذي رسمته رواية القرن التاسع عشر :" هناك حقيقة واقعة لابد من تقديرها : لم يعد الكاتب يؤمن بشخصياته . والقارئ من ناحيته لم يعد قادراً على الإيمان بها " 

وتلخص ساروت التغيرات التي طرأت على الرواية في النقاط التالية ، اهمية المنلوج الداخلي ، فيض من الحياة النفسية . مناطق شعورية واسعة لم تكتشف بعد .سقوط الحواجز التي كانت تفصل بين الشخصيات . اهتمام القارئ بالحالة النفسية للشخصية .وفي المقالة الثالثة تثير ساروت موضوعة الحوار حيث ترى أن الأشكال التقليدية للحوار صارت بالية شأنها شأن الأبطال الذين يدور بينهم ذلك الحوار . وفي المقالة الرابعة تُجري ساروت مقارنة بين الواقعيين والشكليين ، حيث تؤكد على أن القارئ يجب أن يرى في الرواية:" "ذاك الفيض الهائل من الأحاسيس والصور والعواطف والذكريات والنزوات... في حين يندفع فينا باستمرار سيل الكلمات من دون توقف".

في سنواتها الأخيرة انحازت لوجه نظر فلوبير عن الرواية وضرورة أن تأتي دائماً بأشكال جديدة ومادة جديدة وإنه :" لاينبغي أن نكتب إلا إذا أحسسنا بشيء لم يسبق أن أحس به أو عبّر عنه كتّاب آخرون. 

تنشر ناتالي ساروت رواية أشبه بسيرة ذاتية بعنوان " طفولة " تؤكد فيها إنها لم تشأ أن تقدم في هذه الرواية سيرة ذاتية ، بل أصرّت أن تجعل من تلك الطفلة التي نتعرف عليها في الكتاب صورة أخرى تحمل ملامح :ناتاشا " الصغيرة التي غادرت وطنها لتعيش في باريس تسعة عقود متواصلة : "حاولت أن أحيي الأشياء التي أتذكرها في أجمل طريقة. ولكن مع رقابة ذاتية قاسية كيلا أشطح بعيداً عن الواقع".

ونقرأ في الصفحات الأولى حيرة الروائية : 

ـ إذن ستفعلين هذا حقاً؟ " استرجاع طفولتكِ" .. كم تضايقكِ هذه الكلمات، إنكِ لا تحبينها، لكن اعترفي إنها الكلمات الوحيدة المناسبة، تريدين " استرجاع ذكرياتكِ".. لا مجال للمراوغة، هو ذا بالضبط

. ـ نعم، هذا ليس بيدي، إنه يجذبني ولا أدري لماذا

في " طفولة " تجمع ساروت ذكريات سنواتها الإحدى عشرة الأولى..لكنها وهي تروي طفولتها لم تتخلَ عن أسلوبها الروائي، حيث أصرّت أن تعالج حكايتها من خلال مسافة ما بينها وبين الشخصية ، تفترضها عادة الكتابة الروائية. فلم تدمج بينها وبين الطفلة التي كانتها ذات يوم ، حتى وإن حملت بعض ملامحها. 

إضافة الى الرواية والقصة القصيرة والنقد كتبت ساروت عدداً من الأعمال المسرحية التي جسدت فيها أسلوبها الخاص ، فهي مسرحيات تصور العلاقات بين الأشخاص والعلاقات في المجتمع، والطرق التي تؤثر بها الكائنات الإنسانية على بعضها البعض، والنزاعات والخصومات التي نواجهها جميعاً .

قالت إن كتبها مثل أولادها، مع إنها ليست كتباً سعيدة عكس سعادة بناتها :" الشفاء ممكن من العزلة مئة في المئة كما حدث معي وأنا أعيد رسم حياة الناس الذين تلصصت عليهم في المقهى " 

كتبت سوزان سونتاج في رثاء ناتالي ساروت :" كانت تتخيل وتنبض وتختلج وترتجف وتتتمرد تحت تأثير دقّائق الحياة اليومية " . 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top