القاضي سالم روضان الموسوي
يعاني العراق من تدهور اقتصادي ونقص في الخدمات مع وفرة الأموال والإيرادات المتحصلة من بيع النفط، وعكف المختصون في الشأن العراقي على دراسة أسباب هذا الأمر الذي وصل إلى حد أن يشكل ظاهرة،
والغالبية العظمى من هذه الدراسات توصلت إلى نتيجة واحدة مفادها إن الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة هو السبب في كل ما يجري كما توصلت هذه الدراسات إلى تشخيص بعض الأسباب التي أدت إلى انتشار الفساد الإداري والمالي ومن أهمها وأبرزها وجود المحاصصة بكل أوصافها الطائفية والأثنية والحزبية وغيرها، لأن العمل بمفهوم المحاصصة في تولي المناصب والحصول على المنافع أدى إلى حرمان البلاد من خبرات الكفاءة والنزاهة التي يتوفر عليها أهل الاختصاص في كل المجالات والعراق بلد منتج للكفاءات حتى في ظل أحلك الظروف التي مر بها، فضلاً عن الكفاءات العراقية في الخارج ، لأن شغل المناصب لا يكون إلا عبر موافقة الكتل المهيمنة على مجلس الوزراء وكذلك المهيمنة على مجلس النواب . والذي يأتي لابد من أن ينال ثقة هذه الأحزاب، وبذلك فأنه لا يستطيع أن يطبق رؤيته أو برنامجه الذي أعده للعمل في الموقع الذي رشح إليه بسبب تدخل تلك الكتل وسعيها للحصول على أكبر المنافع ، فإذا تمرد ذلك الشخص على مطلبها كان للدور الرقابي للسلطة التشريعية الحضور في متابعته كما يكون للمسؤولين في مفاصل الوزارة أو الجهة التي يتولاها الدور الأكبر في إفشاله لأنهم يوالون الجهات التي أتت بهم ويطلق عليهم في الوقت الحاضر (الدولة العميقة)، أما من يعمل بمشيئة تلك الكتل والجهات التي جلبته إلى المنصب فإنه محصن من المساءلة البرلمانية لان كتلته ستتولى أمر الحماية ومنع الاستجواب أو سحب الثقة عنه والتجربة خلال السنوات الماضية قدمت لنا العديد من الأمثلة على ذلك باستثناء بعض الحالات الفردية التي كان للبرلمانيين كأفراد وليس لأنهم يمثلون كتلة معينة كان لهم دور كبير في تعرية بعض الاشخاص في مواقع المسؤولية أمام الشعب من خلال عملية الاستجواب، وهذه حالات تعد على عدد يد الأصابع ، لذا لابد من الوقوف على أصل هذه المشكلة .
ومن خلال التأمل في الواقع الدستوري نجد إن تعيين الأشخاص في المناصب وتوليهم مسؤولية الإدارة ، سواء في السلطة التنفيذية أو بعض المواقع القضائية وفي الجهات الرقابية المستقلة ، فان أمرهم بيد السلطة التشريعية فضلاً عن دورها الرقابي في متابعتهم، لأن المادة (1) من دستور العراق لعام 2005 قد جعل من نظام الحكم برلماني منح مجلس النواب سلطات كبيرة ومهمة وعلى وفق ما جاء في المادة (61) من الدستور ، لذلك فان أصل المشكلة يكمن في تكوين هذا المجلس وكيفية وصول الكفاءات إليه التي تعيد العمل إلى بما يتفق ومصلحة البلاد، وآلية الوصل إلى عضوية مجلس النواب تكون عبر القواعد الانتخابية التي حددها قانون انتخابات مجلس النواب رقم 45 لسنة 2013 المعدل، وفي تجربة انتخابات عام 2018 شاهدنا العزوف الكبير للعراقيين والامتناع عن التصويت والمشاركة فيها وكانت نسبة الممتنعين اكبر بكثير من المصوتين فضلاً عن التعقيدات التي رافقت تلك العملية الانتخابية وشبهات التزوير التي طالتها .
وهذا القانون قد أتى باليات للتصويت والاحتساب معقدة وغير واقعية وإنها تمثل المصالح الضيقة لبعض الفئات المهيمنة على المشهد في العراق والدليل على ذلك مرور أكثر من دورة انتخابية ولم تتغير مراكز القوى في الحياة السياسية او البرلمانية وان عدد محدود هو من يتحكم بأمور البلد وان دور النواب يكون تابع أو مكمل لرؤية هذه الدائرة الضيقة ، وعندما تحصل بعض الشخصيات المستقلة على مقعد فإنها تنضوي تحت لواء كتلة او جهة سياسية معينة ، وان وصلت الى موقع المسؤولية فانها غير قادرة على التصدي لمشاريع الفساد القائمة لأنها منفردة ولا تشكل أغلبية برلمانية تعينها على إصلاح الأمور او تطبيق رؤيتها الإصلاحية، واكرر السبب يكمن في قانون الانتخابات النافذ لأنه لا يتيح للفرد المستقل أن يصل إلى عضوية مجلس النواب إطلاقا ما لم يكن ضمن كتلة او قائمة انتخابية معينة ، وشاهدنا وصول نواب حصلوا على أعداد يسيرة جداً من الأصوات بواسطة قائمتهم الانتخابية بينما غاب الكثير من الأشخاص الذين حصلوا على أصوات تعادل عشرات المرّات ما حصل عليه هؤلاء. لذلك أرى إن الحل يكمن في تعديل قانون الانتخابات النافذ وجعل التصويت والترشح يكون عبر القوائم المفتوحة كليا وليس القوائم المفتوحة نسبياً لأنها تغيير في المسمى والبقاء على المضمون، والابتعاد عن الاجتهاد في البحث عن آليات عملت بها بعض البلدان مثل سانت ليغو وغيرها، والعمل على إيجاد آليات تضمن أن يكون فائزا في الانتخابات من يحصل على اكبر عدد من الأصوات وليس القائمة التي تحصل على اكبر عدد من الأصوات والابتعاد عن مفهوم العتبة الانتخابية لأنها وجدت لإبعاد القوائم ومن ثم سحب أصواتها الى القوائم الأكبر ووصول من ينضوي إليها الى عضوية المجلس دون الالتفات إلى عدد الأصوات التي حصل عليها ، ومن يتعلل بان ذلك سيؤدي إلى صعوبة تشكيل الحكومة ومعرفة من هي الكتلة الأكبر فان كلامهم مردود عليهم لان الدستور في المادة (76) لم يعتد بالقوائم الانتخابية الفائزة وإنما بالكتلة النيابية التي تتشكل بعد أداء أعضاء مجلس النواب اليمين الدستورية وهذا ما أكدته المحكمة الاتحادية العليا في قرارها التفسيري العدد 25/اتحادية/2010 في 25/3/2010 ولاحظنا كيف اجتمع الفرقاء في ائتلافات واصطفافات لتشكيل الكتلة الأكبر على الرغم من التقاطع في الاتجاه والرؤية من أجل الظفر بمنصب رئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة ومن ثم تقاسم المنافع والمواقع ، ومن خلال ما تقدم أدعو إلى وقفة شعبية لتعديل قانون الانتخابات النافذ وجعل الترشح إلى عضوية مجلس النواب لمن يحصل على أعلى الأصوات دون الالتفات إلى قائمته التي ترشح فيها فإذا كانت تلك القائمة قد حظيت بأكبر عدد من أعضائها الفائزين فأنهم سيمثلون الكتلة النيابية الأكبر ولا خوف على مكاسبهم الانتخابية وان من يرتقى إلى كرسي البرلمان هو من نال أعلى الأصوات عن اقرب منافسيه و لا اعتقد إن العذر الذي ساقه البعض بان عملية الاحتساب ستطول نسبياً ، يكون مانعاً لان أي انتخابات جرت في العراق بعد عام 2004 كانت تأخذ مديات زمنية طويلة تقاس بالأشهر وليس بالأيام مع وجود جهاز مشرف عليها ضخم بإمكانيات مالية وبشرية هائلة ، والاحتساب على أساس أصوات الأفراد الفائزين سيكون اقل كلفة لأنها لا تذهب إلى احتساب العتبة لأي قائمة ولا تذهب إلى احتساب عدد أصوات القائمة كما لا تحتاج الى عناية في توزيع المقاعد داخل القائمة الفائزة ، واعتقد بأننا سنوفر الجهد والوقت والمال في ذلك فضلاً عن البحث والسعي للوصول إلى برلمان يمثل الشعب تمثيل حقيقي ولو نسبياً ، وسنضمن عند ذاك وصول المسؤول التنفيذي المستقل والكفوء كما نضمن وجود رقابة برلمانية حقيقية ل تخضع لأهواء الكتل او رؤسائها ، ومن ثم نخرج من الجب الذي وضعنا فيه من سعى إلى اليه.
اترك تعليقك