د. نادية هناوي
(جسد يمتطي صهوة الريح) قصة قصيرة من مجموعة(معمرة علي) للقاص والروائي الراحل فهد الاسدي والمطبوعة في دار الشؤون الثقافية في عام 1994
والقصة تنتمي إلى المذهب الواقعي النقدي، ولأن الانسحاق والهزيمة هما النتيجة المتوقعة التي عادة ما تنتهي إليها الشخصية الواقعية، لذلك يرى فرانك اكونور إنه لم يحدث أن كان للقصة القصيرة بطل قط وإنما هناك مجموعة من الناس المغمورين الذي يعانون من واقع مرير وقاس. والشخصية المتأزمة في هذه القصة (صاحب الثابت) الإنسان البسيط الذي كرّس حياته من أجل عمله معاهداً نفسه على الإخلاص له والتضحية في سبيله حتى وإن كلفه ذلك حياته.
هذا ما تختزله سيميولوجية الاسم فهو (صاحب) العهد والموفي بالوعد والمؤدي للأمانة والملتزم بالواجب الحريص على أدائه عن طيب خاطر مع إتقان منقطع النظير، وهو أيضا (الثابت) على المبادئ الذي لا تغريه الأهواء ولا تجذبه الملذات ولذلك لم تنل منه التحديات ولم تخذل عقله الحواس.
وقد تقصد الكاتب جعل الواقع مائياً لتوكيد قسوة التحدي وغلظة العيش في وسطه وهذا ما يضيف للتحدي الاخلاقي تحديا آخر، ليكون هذان التحديان هما لب الأزمة التي كابد (صاحب الثابت) لوعتها وقد فرضا عليه أن يكون ثابتاً على أرض هي في الأصل رخوة ومائعة يصعب الإمساك بها أو الظفر بصورة واضحة إزاءها.
وبهذا التضاد ما بين ذات مغمورة ومهزوزة لكنها واعية وملتزمة وبين واقع راسخ لكنه سيّال ومتهرئ، تتفاقم الأزمة وتتوزع القصة القصيرة بين مستويين، فأمّا المستوى الأول فمركزي واقعي يمثله مدير البريد كرمز للبيروقراطية المهيمنة بماديتها الوحشية المبتلعة لكل ما هو إنساني وأخلاقي ولذلك وصفها المفكر سيجمونت باومان بأنها سائلة أو سيّالة تغرق الإنسان في فوضوية لا منتظمة ملتهمة إنسانيته.
وأما المستوى الثاني فهامشي يمثله(صاحب الثابت) الإنسان النقي والشفاف الذي يجد نفسه في وسط فاسد عاج بالوصولية النفعية والسقوط الأخلاقي والتردي الفكري، ولأنه مقموع ومضطهد ومغلوب على أمره لذا لا قدرة لديه على التغيير سوى أن يواصل الثبات على المبادئ مؤديا الأمانة متحملا وحشية الشر ممثلا بمدير البريد الماكر والشرير الذي حاك مؤامرة خبيثة وهيأ دسيسة ماكرة من أجل أن يتخلص منه نهائيا بعد أن فشل في إسقاطه أخلاقياً.
ويسهم استعمال بعض القرائن الأسلوبية في أن يتعالق المستويان المركزي والهامشي ويتماهيان بطريقة دراماتيكية حتى لا نكاد نفصل بينهما فيكون في خضم التردي الفيزيقي للوجود عنفوان ميتافيزيقي، كنوع من اليقين الذي به ضمن (صاحب الثابت) الانتصار لقيمه والثبات على مبادئه، وبهذا غلب الهامش المركز وفتت تعاليه وكشف زوره وأفكه وعرى زيفه وفضح بطلانه .
ولا يخفى ما في هذا التكنيك من براعة سردية جعلت السطح عميقا والذي أعانه على ذلك البيئة المائية التي مسرحت الأحداث جيئة وذهابا صعودا ونزولا وبانسيابية تشبه انسياب الموجة في هدوئها وثورتها عاكسا لنا فوضوية الواقع ولا ثباته ومجسدا بعمق مقدار التحدي الذي على (صاحب الثابت) أن يبذله كي يحافظ على صورته الأخلاقية الناصعة أمام إغراءات المادة وتلوناتها وتبدلاتها.
وهذا التماهي في بنية السرد القصير ساعد على جعل الشخصية نموذجا إنسانيا للمغمورين المنحدرين من بيئات بسيطة الذين ما زالت الطبيعة تحافظ لهم على صدقهم وصفائهم وبراءتهم لكن قوة المركز تحاول أن تجردهم من كل ذلك متلاعبة بمقدراتهم مقدسة المادة على حساب الأخلاق جاعلة الإنسان سلعة طيعة تباع وتشترى حتى إذا شعر المركز أن لا فائدة ترجى من هؤلاء المغمورين لفظهم لفظ النواة، تاركا إياهم يصارعون التيار وحدهم غير آبه بمشاعرهم وغير معين لهم.
وقد أظهر التصعيد في الحبك كيف تحدى الهامش المركز من خلال ذلك الحبل الخفي والسري الذي ظل يربط(صاحب الثابت) بمبادئه، في اشارة اليغورية الى أن المركز /البيروقراطية الرأسمالية لن تستطيع أن تسحق الهامش/ الإنسان المغمور والسبب يقينه الثابت بصحة أفكاره وإيمانه بقضيته والتزامه بمبادئه وعشقه لعمله. وهذا ما يؤهله لمقاومة المركز وتحديه وعدم الرضوخ له مضحيا في سبيل ذلك بحياته عن قناعة ورضا.
والقصة كما عرّفها لوسيان غولدمان فن إشكالي يبحث فيه البطل عن قيم أصيلة وسط عالم متدهور أخلاقيا، وهذا بالضبط هو فحوى القصة موضع الرصد إذ ينقسم البطل إلى جسد ينبغي أن يكافح في سبيل الواجب المكلف به، وروح تمتطي الريح/ الموج من أجل أن تبلغ الرسالة وتؤدي الأمانة متحلية بالقيم الأصيلة.
وإذا كان الجسد قد فشل وقضى غرقا في البحيرة؛ فإن الروح هي التي ستظل وثابة وقد حافظت على المبادئ، ناشرة على المدى قصة ذلك الجسد الذي ذوى وهو يقبض في حياته على مبادئه حتى أخلص لها في مماته.
واذ نتبين أن كيس البريد الذي كان مصير( صاحب الثابت) مرهونا به لم يكن أصليا وقد حوى اوراقا ورسائل غير حقيقة، فإن ذلك لا يعني أن المبادئ التي كان( صاحب) يناضل في سبيلها باطلة أو غير حقيقية، وإنما يعني أن الانسان الصادق والمغمور إنما يهمه صدقه مع نفسه ولا يعنيه كذب الذين يقبعون في المركز وما يغرقون فيه من سقوط أخلاقي ما دام هو نفسه قد تحصن منهم وحافظ على يقينه بصحة مبادئه.
ولقد أتقن القاص فهد الاسدي صناعة القالب الفني الذي فيه صب هذا المحتوى الفكري من خلال راو عليم وليس علاما مما كنا قد فرقنا بينه العليم في مقالة سابقة يسرد الأحداث بطريقة التتابع مع توظيف المفارقة الزمنية بالارتداد مدخِلًا قصتين ضمنيتين في القصة الإطارية هما قصة الفتاة الانجليزية وقصة الطفل الذي غرق والداه.
ولا مراء من أن تخدم هاتان القصتان محتوى القصة الأصل كونهما تدلان على القيم نفسها التي لم يتنازل (صاحب الثابت) عنها فقد قاوم الإغراء الجسدي حين سبح مع الفتاة في النهر كما كان شجاعا حين اتخذ قراره بتبني الطفل الذي غرق والداه في النهر ليعيش في كنفه كواحد من أبنائه.
وإذ يكتشف(صاحب الثابت) في نهاية المطاف أن الكيس أهم منه وأن عليه أن يضحي بنفسه في سبيله سيعرف هامشيته فيخاطب الكيس بلوعة المسحوقين الذين جرفهم تيار الطغيان المادي غير مكترث لمعاناتهم وهم الذين بدمائهم اعتلى المركز" أيها الكيس ما زلت ترى نفسك قويا..لست قويا بجهدك أيها المغرور فقد صنعت صرح مجدك الثابت فوق الموج هذا من أحجار قوتي. لا تنس هذا وحدثهم عني" ص 69
وهكذا تغدو اللغة والتاريخ والسلطة مسخرة كلها لصالح المركز/ المادة، بينما يقبع الإنسان هامشا تبنى على معاناته وتضحياته سعادة المركز ورفاهيته بلا أدنى وازع أخلاقي.
وأسهم التوظيف للحوارات على أنواعها الخارجية والداخلية والمنقولة والحرة غير المباشرة جنبا إلى جنب توظيف تيار الوعي مناجاة ومونولوجات وابتهالات في تصعيد الحبك تصعيدا دراماتيكيا محسوبا بعناية. وعملت التساؤلات التي يتكرر طرحها على لسان البطل في منح السرد حركة ديالكتيتكية تجتمع عبرها المتضادات( فشلنا/ نجحنا) ( جسد /روح) ( اليابسة/الماء) (القرية/المدينة)( الثبات/ التحرك)( الأصالة/ الزيف)( الإنسان/ المادة) كما منح زج المفردات بطريقة شعرية في السرد إلى صنع صور تعبيرية تتوازى عبرها المتضادات ( وداعا أيها البريد لقد أودعتك حياتي) ( اقطع الحبل السري/ امنح لك الحياة) ( الجسد الموعود والروح المودعة)
وعلى الرغم من أن السارد كان يتخلى عن حياديته فينوب أحيانا عن الشخصية ناقلا لنا بواطنها " فكر بان المرأة الأجمل في حياة الرجل هي المرأة التي لم ينل، بقي هذا الوهم في ذاته أجمل من أية حقيقة" ص60 إلا إن ذلك لم يمنع القارئ من أن يكون مترقبا ينتظر انفراج الأزمة، كما لم يقلل من الاحتدام السردي المتصاعد بطريقة ملحمية ما بين حفظ الأمانة وخيانتها ومقاومة الإغراء والاستسلام له.
وصحيح أن (صاحب الثابت) لم يفلح في مقاومة التيار وفشل في مجابهته، بيد أن الطبيعة ستكون رؤوما به أنها لم ترد إفشال مهمته ولذلك وصل الكيس سليما إلى أصحابه هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أرادت أن تستعيده كيانا أصيلا إلى أحضانها لم تزيفه المادة ولم تغوه الملذات. وبهذا ستخلد ذكراه وليس بالمادة التي مصيرها الزوال وفقدان البريق. في إشارة اليغورية إلى أن البيروقراطية لن تدوم مركزيتها بسبب زيف ماديتها بينما سيظل الهامش حيا حاضرا لصدقه وأصالته وفي الوقت الذي ستتفت فيه المراكز وتتهرأ وتتضاءل وسائلها ستبزغ الهوامش كفواعل ثقافية تعيد للحياة نصاعتها وتؤكد حقيقتها.
ولكي تكون النهاية في هذه القصة القصيرة متوافقة مع النهج الواقعي النقدي فانها تأتي في شكل مفارقة صادمة ومأساوية بطريقة ميلودرامية تخيب أفق انتظار القارئ.. وصحيح أن كيس البريد غير حقيقي وأن (صاحب الثابت) خسر حياته، بيد أن الروح انطلقت متحررة من طغيان المادة نافضة عنها ذواء الجسد المغمور، لنعرف أن الدوام سيكون للقيم الأصيلة والمبادئ الرفيعة أما القيم المادية فعابرة آنية وهي زائلة لا محالة.
اترك تعليقك