جذور الحالة الراهنة : السياسة والحكومة والإرهاب (2)

فخري كريم 2005/10/04 08:18:24 م

جذور الحالة الراهنة : السياسة والحكومة والإرهاب (2)

 فخري كريم

قادنا النظام السابق الى الاصطدام بأعتى قوة عسكرية في العالم من دون مسوّغ، وترك وراءه خراباً لا مثيل له، قادته الولايات المتحدة بدورها الى ان يصبح امثولة.

 تغيير عن طريق ولادة قيصرية مؤلمة، حدود مفتوحة، إعلام معاد يصول ويجول، احتلال يقدم أمثولة على سخفه وسوء ارادته وادارته، مجتمع سفلي يقدم عرضاً في النهب والسلب والحرق والتدمير المجاني، محيط اقليمي يشعر بالخوف لكنه يستغل الظروف للتعامل التجاري مع مركز مخاوفه، مكاسب آيديولوجية ودعائية على حساب آلام العراقيين البؤساء بسبب الطريقة المهلهلة التي حدث فيها التغيير: انها صورة مفزعة وقاتمة وبداية سيئة للحرية.

الأمر الذي يجب الاعتراف به، على الرغم من هذه الصورة، ان الولايات المتحدة لم تكسب حربها بعشرين يوماً الا لأن العراقيين لم يقاتلوا، ولم يدافعوا عن نظام مهترئ سامهم العذاب. كان هناك توافق موضوعي (ونشدد على كلمة موضوعي) بين تطلعات ملايين العراقيين في الحرية والخلاص من الدكتاتورية وبين النهاية المعروفة للحرب. لقد سقط الصنم، لكن ماذا بعد السقوط؟

في شروط اعداد سياسي سيىء لما بعد السقوط لم يتوزع ثقل التوافق الموضوعي في مناطق العراق المختلفة، والاستجابة السياسية للتغيير لم تكن واحدة. يبدو هذا مفهوماً، فالتحصينات الاجتماعية–السياسية قديمة، والتوازن السياسي كان في عهدة نظام قاس لا يعرف الرحمة، فضلاً عن غياب كلي لطبقة سياسية مرتبطة بتصيّرات الدولة لا الحزب الواحد قادرة على التقييم واحتلال الواجهة. والحال ان التغيير لم يلمس ابداً هذه التحصينات، بل حفزها، ومنحها الحرية لكي تستعيد رأسمالها الرمزي وتجاهر به علناً. قد يبدو هذا واحداً من عروض الحرية لو كانت هناك دولة وطنية بمؤسسات واضحة، لكن في غيابها، حصل فيضان باتجاه التفعيل الرمزي لقوى ما قبل الدولة والمراجع الاولية المتصارعة والمختلفة التي لم تتعرف على العمل السياسي من قبل، وهي في الاصل عنصر انشقاقي وليس توحيدياً.

    نحن ازاء لب المشكلة، فالتغيير الذي لم يلمس ابداً التحصينات الاجتماعية–السياسية القديمة، بل حفزها، هدَ بالمقابل على نحو صادم، مؤسسات الدولة العراقية، اي مكاسب اكثر من 80 عاماً، في بلد كانت الدولة فيه تشكل المدخل الاساس للتغيير الاجتماعي واعمال التحضر والتنوير وتطوير الثقافة والتعليم، على الرغم من فساد الانظمة السياسية.

    لقد كانت الدولة تقود كل شيء تقريباً، فاذا بنا فجأة نفتقد ابسط تنظيم يوفر لنا احتياجاتنا الاساسية، ولا سيما الأمن والطاقة.

    ان سقوط الدولة المأساوي، وحل الجيش العراقي، وعروض اللصوصية وأعمال التخريب الميسرة من قبل الامريكان، دفع الناس الى الانكفاء نحو تحصيناتهم القديمة ومراجعهم الاولية. لقد تفككت العلاقة بين المركز والاطراف، بل لم يعد هناك مركز متكون من نسيج سياسي متجانس، ثم تفككت العلاقة بين الاطراف نفسها وانبثقت نزعة مناطقية اخذت مفاعيلها من الزعامات المحلية، وارتبطت على هذا النحو او ذاك، بالتوزيع الطائفي للسكان.

منذ الآن باتت المناطق بمراكزها المدينية المهلهلة تتحدث باسم مصلحتها الخاصة بمعزل عن المناطق الاخرى، وبمعزل عن الجسد العراقي كله، على الرغم من ارتفاع شعارات الوطنية التي رجّعت صدى مخاوف مجموعات المثقفين والمتنورين والقلقين على وحدة البلاد. لكن الوطنية ليست شعاراً مثلما هو الوطن ليس نشيداً، بل هو متحد سياسي والقوى الأساسية القادرة على اعادة اللحمة والنسيج اليه كانت تقع عند أفق غائب.

    مما زاد من التفكك ان العمل السياسي بات مجزأً ويخدم قيادات مناطقية وطائفية. وضمن الشروط التي تم فيها التغيير والاستجابة له، رفعت شعارات التمثيل السياسي مبكراً جداًَ في مناطق معينة متخذة تلقائياً صفة طائفية، بينما شعرت مناطق اخرى بالخطر من نتائج هذا التمثيل، وقاومته، بالالتفاف حول قيادات محلية متكونة من مجموعات غير متجانسة، فتحت الطريق هي نفسها الى جماعات الارهاب لكي تدافع عن موقعها السياسي، وهي مستشاطة طائفياً.

    في هذا المفصل الخطر كان على المجموعات السياسية التي قادت البلد، وخاضت صراعاً سلمياً مع الاحتلال الأمريكي، أن تتأمل الموقف وتستنتج الاستنتاجات الصحيحة بشأن الدمار الحاصل في البناء السياسي العراقي. فلقد اختلت المعادلة السياسية، وكان يجب اعادة ترميمها ديمقراطياً وليس قيادتها الى التصادم، او التغاضي عنها. وبموازاة ذلك كان يجب اكتشاف الطريق الى معادلة سياسية مفتوحة، من قبيل مؤتمر وطني للحوار والمصالحة وانقاذ وحدة الوطن.

    لكن الطائفية السياسية، وروح المناطق المغلقة، تغلبتا في النهاية، ورهانات المستقبل انفتحت على طريقين اثنين: الانتخابات والمقاومة. الرهان على الاكثرية والرهان على العنف الصارم الذي سيعيد الارهاب تأسيسه على نحو طائفي، لقد اعترف بواقع جديد جاء من عملية حرث مؤلمة، فاذا بالسياسة نفسها تتكيف مع الامر الواقع. ومنذ الآن بات الامر الواقع، الفقير الى حد البكاء، هو الشكل السياسي للمرحلة الانتقالية، مما يعني الابقاء على الروح الانعزالية، والانكفاء، وتلقي الدعم من المراجع الاولية بوصفها قوة ضبط اجتماعي وحيدة.

    لقد تأسس مجلس الحكم بهذه الشروط، واعتمد مبدأ المحاصصة، وعملياً اعتمد على المقربين من فكرة (الأمر الواقع)، ومن المقربين من المجموعة التي دعمت التغيير وسعت اليه قبل التاسع من نيسان، ومن شخصيات سياسية لم تعامل بوصفها ممثلة لقيادات سياسية بل ممثلة لطوائف وقوميات وجماعات اثنية. حتى ان المسؤول الشيوعي عدّ شيعياً وليس ممثلاً لحزب سياسي معروف، كما عدّ مسؤول الحزب الاسلامي العراقي ممثلاً سنياً بدلاً من ان يكون ممثلاً لحزبه.

    ان هذا الاستبدال شكَل الثقافة والتقاليد التي سار عليها هذا المجلس المؤقت اذ اعتمد على الطائفة والقومية وليس الحزب او التيار السياسي، وهو اختزال عكس ما كان يجري في المناطق والتوزيعات الطائفية والقومية. اي انه كرس سياسياً الطائفية والعرقية على حساب التفكير السياسي المعاصر، في حين ان هذا المجلس كان النواة لتشكيل سلطة سياسية وطنية يدعم ويوجه الدولة وهي في طور التشكل والبناء.

    المثير في الامر ان هذا المجلس أغفل قوى اخرى كانت تتشكل بالقياسات الطائفية نفسها، وانشأت لها هيئة دينية غير سياسية، الا انها بسبب التهميش، مارست لعبة السياسة، مرة بالتعالي على الطائفية، ومرة بالانسجام مع التطلعات الطائفية حسب القضايا المطروحة. أغفل المجلس ايضاً التيار الصدري الذي كان يتشكل آنذاك بقوة، فضلاً عن قوى قومية وناصرية ساندت التغيير.

    اذن حتى فكرة الموازنات السياسية قعَدت على المحاصصة التي هي ضرب من تمثيل مصغر كان يهيىء نفسه للتمثيل السياسي الكبير: الانتخابات.

    هذا السلوك الغريب انتج معارضة لم تكن موحدة لكنها من الصنف نفسه تقريباً. ولأن السلطة الفعلية ظلت بيد المحتلين فقد كان من السهل اتهام مجلس الحكم بانه عميل لأمريكا، مما أحاط المجلس بجو من الشبهة استطاع الاعلام العربي ان يستغلها.

    والحال ان هذه النواة المؤقتة بقدر ما كانت هزيلة منحت الفرصة لادارة نقاش من طبيعة انقسامية، من نحو الاكثرية والاقلية، والتهميش، واجتثاث البعث، والتهميش التاريخي القديم ازاء تهميش جديد. طائفة ترفض الغبن التاريخي ازاء حالة من التهميش الجديد لقوى عدت –تاريخياً- انها قبضت على السلطة منذ تأسيس الدولة العراقية الى 9 نيسان 2003. ان الاحتكام الى التاريخ لا يعني سوى الاحتكام الى مرويات الجماعات المتصارعة. لكن عن اي تاريخ نتحدث؟ عن جماعات فلاحية فقيرة، عن صراع العشائر الدموي، عن دولة تأسست بيد الانكليز الذين استخدموا معدات الدولة العثمانية الغاربة، عن الفقر المدقع، عن الدكتاتوريات، عن الحروب، وعن آلاف الملابسات الاجتماعية-السياسية التي كانت قد دخلت الى أفقها.

ان استرجاع الماضي في ظروف مهلهلة، وبقصد تبرير الحاضر أو سياسة ما، هو خيانة للماضي وارباك للحاضر، وادخال عناصر اضافية في وضعية مأزومة أصلاً. السؤال الحق هو: ماذا نفعل اليوم؟ ماذا نفعل لحياتنا؟ ما هو الواقع... هنا والآن؟

    كان يمكن لجميع الافكار والمرويات الاجتماعية والمظالم التاريخية ان تأخذ طريقها الى نقاش وطني وعقلاني لو كنا نمتلك دولة، ولو واصلنا بناء دولة بمواصفات آلة، وبمواصفات مرجع ودليل سياسي على استقلالنا الوطني، ونمونا المستقل. دولة تنظم وتضع القياسات وتدمج ما بين تطلعات الطوائف والمصالح الكلية للشعب العراقي الموحد، لكن أين هي هذه الدولة؟

    ازاء ذلك وضعتنا ما تعرف بـ (العملية السياسية) في خانق ضيق، فالفترة الانتقالية بدلاً من أن تطول لمصلحة بناء هذه الدولة، قصرت على نحو استعجلتنا التواريخ الانتقالية اكثر مما استعجلتنا الوقائع الحسية الملموسة. لو كانت الفترة الانتقالية أطول، لكان بالامكان الخروج من مأزق الرهان على تمثيل الكتل التأريخية الطائفية الذي طرح بقوة، وكان بالامكان تفكيك التخندقات بعمل سياسي مكثف يجري بموازاة بناء دولة تمهد الطريق لعملية سياسية متنوعة لا تقتصر على الانتخابات، بل تعيد تشكيل وطن موحد، ديمقراطي حقاً.

    ان من يزعم بإمكانية بناء ديمقراطية في بلد لا توجد فيه دولة يتنكر للدليل العالمي لبناء الدول الديمقراطية، ومن يزعم ان الديمقراطية هي نظام انتخابي تحصل فيه الاكثرية على حصة الاسد انما يريد للديمقراطية ان يكون أفقها الوحيد هو تسلم السلطة. لكن الديمقراطية لا تقتصر على الانتخابات (التمثيل) بل تتعداها الى بناء مجتمع ديمقراطي واع يعج بالحراك السياسي، وله قاعدة من الخيارات العديدة، ويستند الى دولة قوية.

    قد يعترض قائل: ولكن هناك دستور ناظم يحقق العدالة. نجيب: نعم.. ولكن ماذا عن الوقائع على الارض؟ ماذا يستطيع دستور ان يفعل اذا ما قررت المحافظات والمناطق ما يناسبها و(على أسس ديمقراطية) متوفرة في الدستور نفسه؟! وسيقولون: ولكن هذه هي الديمقراطية!

    هذا المنطق (الديمقراطي) هو الذي يراهن عليه اليوم في الانتخابات القادمة التي تستند الى دستور يهزم الدولة الحديثة بالديمقراطية نفسها.

    بهذا المخطط اراد اسلاميو الجزائر من الانتخابات ان تحقق لهم الهيمنة لكي يعيدوا الجزائر الى عهود التشدد والانغلاق.

-يتبع غدا-

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top