نافذة من موسكو..نقص المياه عامل إضافي في زعزعة استقرار المنطقة

آراء وأفكار 2019/07/07 07:23:27 م

نافذة من موسكو..نقص المياه عامل إضافي في زعزعة استقرار المنطقة

د. فالح الحمـراني

أصبحت إمدادات المياه في الشرق الأوسط ، التي تُعد الشرط الأكثر أهمية لإنتاج الغذاء والحفاظ على العمليات الإنتاجية عموماً ، والركن الرئيس في عودة المنطقة إلى الحياة السلمية،

بعد أن شهدت واحدة من أكثر الصراعات عنفاً في عصرنا المرتبطة بالكفاح ضد ما يسمى بالدولة الإسلامية (داعش). 

إن هذه المسالة أحدثت الانشقاق في العلاقات بين بعض دول المنطقة ، مما زاد من تفاقم المشكلة ، بمعنى أن حلها ممكن فقط بالتعاون الوثيق وفهم مشترك للخطر من جانب جميع القوى السياسية والعامة في المنطقة. هذا من جهة. ومن ناحية أخرى ، أدى غياب التنظيم، ولا سيما سيادة الاضطراب في الحياة الاقتصادية في كل من البلدان المتضررة، وزعزعة توازن الأولويات إلى أقصى حد ، وتشتيت انتباه السلطات ، إلى وضع حكوماتها أمام ضرورة استعادة الإمكانات الاقتصادية على خلفية مشكلة المياه المتفاقمة بسبب الأضرار أو التدمير المباشر للبنية التحتية وعطب نظام إمدادات المياه.

وأصبحت مشكلة المياه في منطقة الشرق الأوسط الآن مؤلمة وملحة إلى درجة أنه يتم إدراجها ضمن قضايا الأمن الوطني من قبل جميع بلدان المنطقة التي تفتقر إلى هذا النوع من الموارد الطبيعية. بعد كل شيء ، تقع كل هذه البلدان في واحدة من أكثر المناطق الجافة في العالم ، حيث موارد المياه المتجددة محدودة بشدة.

وبالتالي ، تشغل الدول العربية 9٪ من مساحة الكرة الأرضية، وتملك عدداً كبيراً من السكان ، وتشغل مجتمعة المرتبة الخامسة بين دول في العالم وفقاً لهذا المؤشر. وتقدر موارد المياه في جميع الدول العربية بـ 0.9٪ فقط من إجمالي الاحتياطيات العالمية ، ولا تتجاوز مصادر المياه المتجددة 1٪ من الإمكانات العالمية. ونتيجة لذلك ، ينخفض حجم المياه موزعاً على الفرد بشكل مطرد هنا: إذا كانت هذه القيمة في عام 1960 تبلغ 3.3 آلاف متر مكعب. للشخص الواحد ، في عام 1990 - 1.3 ألف متر مكعب. التوقعات وحتى عام 2025 مخيبة للآمال: 0.7 ألف متر مكعب فقط، مما يعني انخفاض خمسة أضعاف في القاعدة . وهذا هو أقل بكثير من المتوسط العالمي ، والتي تبلغ الآن 13 ألف متر مكعب، من الماء للشخص الواحد في السنة.

وبالتالي ، فإن الوضع يتفاقم تدريجياً ، حيث يصبح النقص المتزايد في المياه عائقًا خطيرًا أمام النمو الاقتصادي. ويمكن أن يتحول إلى مشكلة صعبة بالنسبة للدول العربية ، لأنها قد تعني بالنسبة للعديد منها تباطؤًا في التنمية في أهم لحظة تاريخية تمر بها ، عندما تسعى للقيام بطفرة في سبيل الاندماج في المجتمع العالمي على قدم المساواة. إن محدودية موارد المياه العذبة هي المسار الأكثر احتمالا للتطور في هذه المشكلة ، بسبب أن منطقة الشرق الأوسط لا تمتلك حالياً احتياطياً استراتيجياً من المياه قادراً على إنشاء مجال للمناورة بالثروات.

لذلك ، فإن مشكلة المياه في الشرق الأوسط تكتسب بسرعة طابعاً دولياً ، وبالتالي أصبحت عاملاً خطيراً في السياسة العالمية في المنطقة وتناقضات الدول العربية مع الدول المجاورة وفيما بينها. ومع اشتداد توقع حدوث أزمة في إمدادات المياه ، تبدأ مشكلة المياه في الظهور بصوت عالٍ ، حيث لا يقتصر الأمر على المتخصصين والخبراء فحسب ، بل يشمل أيضاً السياسيين. وتكمن المشكلة في أنها أضعف حلقة في العلاقات الإقليمية. وطالما إنها كانت منذ فترة بعيدة موجودة بشكل خفي في هيئة تناقضات ، على سبيل المثال ، في نزاع الشرق الأوسط بين إسرائيل وجيرانها العرب ، أو في "مثلث تركيا - العراق - سوريا" ، أو بسبب الخلافات حول توزيع مياه نهر النيل.

في هذا الصدد ، من الممكن الإشارة إلى مشكلة توزيع مياه نهري دجلة والفرات. حيث نفذت تركيا منذ عام 1961 ، باستمرار مشروعاً واسع النطاق لبناء المنشآت المائية والري في الجزء الجنوبي الغربي. ونتيجة لذلك ، تم تشكيل حوالي 1.7 مليون هكتار من الأراضي المناسبة لمزاولة هنا الزراعة عالية الإنتاجية هنا. وخطط المشروع لبناء 19 محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية على نهري دجلة والفرات ، مما أدى إلى زيادة كبيرة في إنتاج الكهرباء.

وبالفعل في التسعينات من القرن الماضي ، حفزت الكهرباء الرخيصة نسبياً زيادة ملحوظة في الإنتاج الصناعي في البلاد. كما تم بناء سد كمال أتاتورك العملاق ليصبح أكبر مرفق للري في الشرق الأوسط. وسمح بنائه لتركيا بحل مشكلة الغذاء بالكامل تقريبًا ، مما زاد من غلة المحاصيل بمقدار 2-3 مرات.

ومع ذلك ، فقد اتخذت تركيا جميع القرارات المتعلقة بمرافق الري دون التنسيق والاتفاق مع الدول المجاورة. وقامت تركيا في يناير 1990 ، بسد خزان سد كمال أتاتورك ، ما افضى إلى التوقف لمدة شهر كامل عن تزويد سوريا بمياه الفرات . وبشكل عام ، بسبب الإجراءات التركية التعسفية ، جرى الانخفاض التراكمي في إمدادات المياه من نهر الفرات إلى سوريا منذ منتصف السبعينيات. والتي تقدر ب 150 مكعب. كم ، أي يساوي التدفق التراكمي للفرات في خمس سنوات.

بالإضافة إلى ذلك ، استخدمت تركيا في بعض الحالات "عامل المياه" كوسيلة لممارسة الضغط السياسي على سوريا. على سبيل المثال ، في عام 1987 ، عند جرى توقيع اتفاقية أخرى حول توزيع مياه نهر الفرات ، طالبت تركيا دمشق بالتخلي التام عن دعم حزب العمال الكردستاني ، الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية.

وعشية الحرب الأهلية في سوريا ، التي بدأت في عام 2011 ، تدهور الوضع المائي هنا بشكل حاد بسبب الجفاف طويل الأجل الذي ضرب عددًا من بلدان الشرق الأوسط،، واستمر خمس سنوات (2006-2011) ، وكانت عواقبه كارثية على سوريا. ومنذ عام 2007 ، اضطر السكان إلى مغادرة أكثر من 160 منطقة سكنية في شرقي البلاد. ولاحظ الصليب الأحمر الدولي أن 800 ألف سوري فقدوا سبل عيشهم. بعد الانتقال إلى مناطق أخرى ، وحفر هؤلاء "المهاجرون القسريون" أكثر من 25 ألف بئر ، مما أدى إلى انخفاض ملحوظ في مستوى المياه الجوفية . وبدأت أولى المظاهرات الجماهيرية المناهضة للحكومة في المناطق القاحلة في سوريا - محافظات درعا (في الجنوب) وقامشلي (في الشمال الشرقي).

وتفاقمت المشكلة بالفعل في أيامنا هذه، خلال تزايد الهجمات المسلحة ضد داعش في سوريا والعراق ، الأمر الذي أعطى تركيا حجةً للعمل ضد مقاتلي داعش ، دون الأخذ بعين الاعتبار حرمة حدود الدول المجاورة. في الوقت نفسه ، فان سيطرة الإرهابيين من مجموعة جبهة النصرة على الخزانين السوريين تشرين و سد الطبقة ، ثم انتقالهما تحت سيطرة داعش مع خزانات الثرثار والفلوجة في العراق ، اللتين استولت عليهما داعش في وقت سابق، شكل تهديداً بوقف وصول إمدادات المياه لسكان هذه المناطق. ومن خلال مفاوضات طويلة وصعبة في مرحلة أكثر التطورات سلبية ، تم تجنب الاشتباكات الشرسة من أجل المياه ، وواصل الخبراء السوريون والعراقيون تنظيم تدفق المياه إلى السكان المحليين.

بدوره ، يصر العراق على ان تقوم تركيا في تزويده بـ 700 متر مكعب على الأقل من الماء في الثانية الواحدة بدلا من ال 500 متر مكعب الحالية. بالإضافة إلى ذلك ، بدأ العراق في الحصول على كميات أقل من المياه من الفرات نتيجة لبناء سدود قبان في تركيا وطباكا في سوريا. ومن أجل التعويض عن الخسائر ، طالب العراق بأن يكون تدفق مياه دجلة إلى أراضيه على الأقل 200 متر مكعب في الثانية الواحدة ، لكن أنقرة رفضت ذلك. وهكذا ، قبل بدء بناء سد يلسو (65 كم من الحدود التركية مع العراق وسوريا) ، كانت الخلافات بين هذه الدول تتعلق أساساً بتوزيع مياه الفرات ، والآن قد أثرت أيضًا على حوض نهر دجلة . ووفقا لبعض التقديرات ، فإن سد يلسو، الذي بلغ حجم خزانه 11 مليار متر مكعب، يمكن أن يقلل من تدفق المياه إلى العراق ، ونهر دجلة بنحو 50 ٪.

وتدخلت إيران أيضاً في توزيع مياه دجلة ، حيث قامت ببناء السدود على نهري الزاب الكبير والصغير ، مما أدى إلى تغيير كثافة روافد نهر دجلة. بالإضافة إلى ذلك ، قامت إيران ببناء سدود على نهري كيرخي وكارون ، مما تسبب في نقص حاد في المياه في روافد شط العرب ، مما أدى إلى تدمير هائل للأشجار ومحاصيل الحشائش والأرز التي تزرع تقليدياً هنا في هذه المنطقة الزراعية بالعراق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*اعتمدت على دراسة نشرت في مجلة " اسيا وافريقيا اليوم" الصادرة عن معهد الاستشراق في موسكو

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top