اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > ياسين النصير مفكراً

ياسين النصير مفكراً

نشر في: 15 يوليو, 2019: 06:53 م

ناجح المعموري

تثير كتابات الاستاذ ياسين النصير اشارات وملاحظات ايجابية مهمة ، تكرس لدى عبر القراءات المستمرة موقفاً خاصاً مميزاً للأستاذ النصير ،

بوصفه مفكراً قادراً على قراءة كل ما هو موجود في الحياة اليومية وابتكار ما هو مألوف . وهذا ما وظفته بشكل جيد في قراءة مغايرة لملحمة جلجامش .

ذهب الأستاذ ياسين النصير نحو منطقة جديدة ، وغائبة في الثقافة العراقية ، وباستثناء كتابات نصير فليح ود. رسول محمد رسول ود. علي مرهج . وما يكتبه النصير ملفت للانتباه ، لأنه يختار بؤر يومية ومشاهد حياتية معروفة تماماً ، يحفر فيها ويكتشف المثير والمدهش ويتمركز في عمق الميثولوجيا ، مغادراً جماليات النص وشاعريته ، لأنه معني بالجماليات المختفية ، المولدة للشعرية . وأنا على ثقة من أن تجربة المفكر ياسين النصير خاصة به ، لأنه مبتكر لتقشير البؤر التي يتجه إليها ويقدم إنموذجاً لما يتوفر عليه من عقل مكتنز وثقافة فلسفية . وما يهمني بخصوص تجربة النصير معرفته العميقة لعلم الانثربولوجية والاجتماع والميثولوجيا . وهو الذي قال بأن الميثولوجيا هي التي تساعد القارئ على إجراء حفريات عميقة وأفق واسع ، وبلاغة متنوعة ، تمنح المتلقي تنوعات المعنى ، ودائماً ما يوظف النصير الانثربولوجيا وعلم الاجتماع والميثولوجيا لتأسيس مشروعه المعرفي ببلاغة مثيرة . ولابد من الإشادة بهذه التجربة الملفتة للانتباه ، لأنها شكلت ملمحاً خاصاً بياسين النصير ، وهذا ما تمظهر عن مقالته " البئر المختفية فينا " والمنشورة في ثقافة الصباح يوم الاربعاء 12/حزيران الحالي .

قدمت مقالة المفكر ياسين النصير ثقافات ومعارف عديدة وعميقة ، تمنح المتلقي فرصاً واسعة لفحص المتراكم من الميثولوجيا والانثربولوجية وامتدت بنجاح منذ ابتداء الديانات البدئية وتحولاتها وحتى التفريد ، وذهابها نحو التوحيد ، وأستطيع أن اقول بانها مرايا لها انعكاسات واسعة . ولهذا التوسع والامتداد والذهاب نحو أعماق الأشياء نتاج للفلسفة ، لأن النصير قارئ جيد لها وعارف بالتشابكات فيما بين النظريات ، هذا تبدّى مؤخراً والدليل على ذلك اهتمام النصير بشعرية الماء مثلما كتب عن السياب ، لكنه الآن ــ في البئر المختفية فينا " قادته الفلسفة الى قراءات متنوعة . ولفتت انتباهه الى الثنائية مع الأسطورة وأكد النصير منذ زمن التداخل بين الأشياء والأساطير وواضح هذا في مقالته جيداً وهو يعي بشكل ممتاز كيف صاغت الأسطورة كل المبتكرات في الحياة والعالم ولعل أهم ما يشير لذلك الأساطير التي وظفتها الديانات بوصفها تخيلات تضفي على الدين اعجازاً ، وتعطي الآلهة أو الانبياء آيات خاصة ، مميزة لكل منهم ، وعلى سبيل المثال شخصية موسى وتأثير السحريات المصرية أثناء تواجده هناك أحد أهم العناصر المكونة لشخصيته ، فما حصل بين موسى والصخرة مثير للاستغراب والدهشة ، لكن من يتعامل مع مكوناته الثقافية والدينية ، وكيفية تبلور شخصيته ، سيقتنع تماماً بما فعلته العصا بالصخرة وتدفق الماء منها . العصا هي العصا ذاتها التي قال عنها موسى هي عصاي أهش بها على غنمي ولي فيه مآرب أخرى .

" كل ما نفكر به ، وما نمارسه ، وما نعمل في الغد لتحقيقه ، يكون له جذره الميثولوجي الخاص به . فاعمال الإنسان جزء من بنيته كانسان ، وبدون فهم هذه الجدلية . لن يكون لأية فكرة أو ممارسة حياتية بقاء " هذا كلام قاله كاسييرر وأشار له هايدجر ولكن بغير سياق نصي ، واقترح النصير علاقة بين الموجودات المألوفة الموزعة في اللغة ، كثير منها ذات أصل ميثولوجي ، وبعض هذا الكثير المهم ذات صلة وثيقة وعميقة جداً مع نظرية الخيال وعناصرها الفلسفية التي اقترحها باشلار كجزء من نظرية العلم وأخذتها الفلسفة وتعمقت بدراستها وتحولت الى وحدات جوهرية كاشفة عن ما هو مألوف مثل الماء ، الشمس ، الهواء ، التراب . وتتسع هذه الوحدات لتحتضن المطر ، الحرارة ، النار ، الجنس ، الارض وما تستدعي كل وحدة منها لتؤكد على التكون اللائق ، والواجب على المتلقي المثقف أن يدرك تنوعات المعارف ذات الحضور البارز في تكونات العقل وعليه ان يعرف تأثير هذه التكونات . كما المح النصير الى ما اطلق عليه أنا المجاورة والمحاورة . حيث يبدو أحدهما قوياً عبر الآخر ووجوده . أحدهما فاعل بتوفير الجدل والحراك بينهما واخضاعهما للسيرورة . المساهمة بتوليد الدلالات الناشئة من التواجد المحيطي بين الاثنين ، لأن المعنى لا يتكون ، إلا بوعي الالتفاف الخارجي المساهم بتوليد الدلالات التي تظل مفتوحة ومتحركة باستمرار . وهكذا تظل سيرورتها المانحة للمتلقي أفقاً غائباً مثلما توفره الأسطورة كما قال بول ريكور . اليومي له أسطورته ، وهذا امر حتمي ، لأن اكتمال تاريخيته تتم من خلال الميثولوجيا ، التي تعطيه ذاكرة تبقى ممتدة ، ما دام الراوي / الصوت له حضور حياتي . والاسطورة لابد وأن تستدعي ما يماثلها حتى تستكمل وجوداً ، وتعطي للموجود فيها وغير المعروف صفة الكائن ، المتخيّل . وضرورة وجود أسطورة جديدة ، لتستكمل ما قبلها ، يتضح جلياً بالذي قاله النصير عن عصا موسى والعلاقة بين الصحراء والصخرة ، ورمزية إبراهيم المانحة ماء وقد استولد النصير لهما ــ لأسطورتهما معاً ــ أسطورة جديدة وهي تعني اهتمام بما تكون منه ، وهو الماء والتراب ، ويعنيان : الطين مادة الخلق الكبرى .

وضع الأستاذ النصير يده متطابقاً مع تصورات الفلسفة التي توصلت لأول مرة بين النمط الأول وهي أربعة أنماط ، لكل منهما ملحق يمتد ويتحول الى سيرورة معرفة النمط البدئي ممكن ، لكن التابع ، أو التوابع المستولدة منه ليست ممكنة دائما ، لأن الامكان معطى ثقافي ومعرفي دال على ثقافة غزيرة وعميقة ، تجعل من المتلقي لاعباً وسط محيط كبير ، وحده العارف بما يريد الإعلان عنه ، وهو المتفرد بالتصريح والقول ، كل هذه الخصائص والمميزات ، منحة الفلسفة . ساعدت الاسطورة ابتكار الخيط الممتد بين السيولة والصلابة ، الماء أولاً والصحراء ثانياً . وانا اتذكر حواراً مع العالم المختص بالتصوير الارضي بواسطة الاقمار .

قال : كانت الصحراء غمراً . لذا ليس مستعبداً الحفر متراً او اكثر في الصحراء ، مسيتدفق الماء غزيراً . ما قاله الاستاذ النصير توصلاً مستلاً من العلم والميثولوجيا وقاله مركزاً ، قابلاً بالشرح والاسهاب ، لان الحلقات / الوحدات المكونة للسيولة تستدعي المرور الى الماء والنار ، كذلك العناصر / الانماط الاخرى . وهذه التعرف ، قاد المفكر النصير نحو فضاء التأويل ودخل قوياً ولاعباً بمهارة وانا اعرف جيداً بأن التقدم بالعمر يقود باتجاه المعرفة ولكن بشرط التوفر على الفلسفة .

الوضوح الباشلاري الخاص بفلسفة العلم وعناصر الخيال طافح بثنائية الماء والنار ، والماء والتراب ، وتصطف النار مع التراب ويصوغان الرغبة / اللذة ، تعالي الشهوة والموت المؤقت ومعاودة الحياة ثانية مع الرماد ، وهو تراب ايضا ، وكلاهما يفضيان للحلم امام النار ، لأنها تمنح موتاً حميمياً كما قال باشلار ، موتاً يعطي الخلود ، لابد من وجود الاسطورة في كل الاشياء والموجودات ذات الكينونة ، ولا يوجد موجود بدون وجود ، هذه مقولة هايدجر . فالأسطورة ، لغة لا تشبه لغتنا التي نكتب بها او نتحدث بها ، انها لغة مختلة ، صاغها كائن عاقل غير العالم عن موجود هو راه وليس نحن ، لذا تمكن من قيادتها والتأثير علينا منذ الابتداء والى الابد . هذا ما يعنيه الاستاذ ياسين النصير بأن الأشياء لا تعرف إلا من خلال الأساطير التي تومئ لها والمتجاور معها . والميثولوجيا هي البئر المختفية فينا ، وستظل ممتلئة ماء . وأضيف ما لم يقله ياسين ، لأنه جعل مقاله المشار له مفاتيح كتابية ، سجلها وسيعود لها . وبودي الإشارة الى أن مدونة النصير هي تكررات أنظمة رمزية ومثلما قال لاكان ، يتميز النظام الرمزي بثنائية الأضداد الأساسية ، الغياب والحضور ، ففي النظام الرمزي ، لا يوجد شيء ميت إلا على أساس فرضية الغياب " ويشكل هذا الامر فارقاً جوهرياً بين النظام الرمزي والنظام الواقعي ، إلا وجود للغياب في الواقعي ، هنالك غياب فقط فيما إذا افترضت الحضور وحيثما هو عبر موجود .

نظام البئر رمزي ، ومتعدد الدلالة . واعمق دلالاته ذهب اليها النصير ، هي النفس الادمية المفتوحة / والمغلقة . مفتوحة لأنها قادرة على الخزن وتصير خزاناً للواعي واللاوعي ، هي العمق البشري ، لان النصير طاف فيها وحولها كثيراً . ومن مكونات النظام الرمزي / ما هو واقعي ، محيطي ، منفتح للتراكم ، وكدسي ، لأنه كينونة لا تتناقص ــ هذا ما قاله ياسين ــ وفتح منفذاً نحو الماء البئري وما جاوره من تراب في المحيط وكلاهما يخلقان معاً ، الخصوبة والبئر أنثوي في دلالته الرحمية ، يموت فيه الكائن وينبعث من جديد . يوسف نزل البئر / مات وعاود كينونته . بودي القول بأن النصير يختبر سياقات لغته ، اعتماداً على معجمه ويفتح رموزه ، عارف بمهارة بحيث يتشكل وسط لعبة الخبرة وتصير ممتلئة بالمجاورة مع غيرها متوترة بامتحاناتها للمتلقي ، لانه يستجيب لدخول مجرى النص او مجاري معاينة .

يصير غمر الماء صحراء . موسى في سيناء الصخرية ، يعيش زمناً مستعاداً ، كان طوفاناً وكل شيء فيه سيال ، واصطف بالذاكرة الكامنة مع الماء والطواف البحري الذي تسلل اليه سقط الطفل موسى . تقود توصيفات النصير نحو الجذور / الاصول / العتبات ، ذات الطاقة السردية .

( تضيف المخيلة لوجود الاشياء ، الجذور والاشياء الممارسة روحاً . والأشياء المتخيلة بمفهوم المطر النازل ، والماء الصاعد تكون الميثولوجيا قد وجدت الله في الاشياء لتتوسع المعارف لاحقاً . ويتجدد التفكير وتتسع دائرة التخييل . وتتنوع طرائق العيش وتبدأ التجمعات الصغيرة لتصبح شعوباً وقبائل ) .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملاحق المدى

مقالات ذات صلة

16-04-2024

مثقفون: الجامعة مطالبة بامتلاك رؤية علمية تكفل لها شراكة حقيقية بالمشهد الثقافي

علاء المفرجي تحرص الجامعات الكبرى في العالم على منح قيمة كبيرة للمنجز الثقافي في بلدانها، مثلما تحرص الى تضييف كبار الرموز الثقافية في البلد لإلقاء محاضرات على الطلبة كل في اختصاصه، ولإغناء تجربتهم معرفتهم واكسابهم خبرات مضافة، فضلا على خلق نموذج يستحق ان يقتدى من قبل هؤلاء الطلبة في المستقبل.السؤال الذي توجهنا به لعدد من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram