الأصول الشعبية للسينما الطليعية

الأصول الشعبية للسينما الطليعية

ترجمة: صلاح سرميني

مصاصو الدماء

في عام 1914، عندما أعلنت شركة باتيه عن إنتاج فيلم ـ مسلسل بعنوان "أسرار نيويورك"،

أوكلت شركة غومو على الفور مشروعاً منافساً إلى "لوي فويّاد" الذي ارتبط اسمه مسبقاً بالنجاح الهائل لفانتوماس (1913)، وهكذا وُلد "مصاصو الدماء".

تتكوّن السلسلة من 10 حلقاتٍ تقدم الصحفي "فيليب غيراند"، الذي أُطلق في السعيّ وراء تنظيم إجراميّ غامض، "مصاصو الدماء ".

كانت الشخصية الرئيسة في المسلسل "إيرما فب"، التي أدّتها الممثلة، والمخرجة "موزيدورا"، امرأة مغوّية ترتدي قميصاً حريرياً أسود اللون، وتخفي وجهها بغطاءٍ من تصميم "بول بواريه"، وبالافتنان بهذه الشخصية، والأجواء التي تتطوّر فيها، اثبت السورياليون سمعة عمل "فويّاد". 

مصاصو الدماء هؤلاء لا يمتصون الدمّ، ولكن يسرقون، ويقتلون، ويُرهبون باريس، بمضاعفة عمليات الاختطاف، والسطو، والاغتيالات. 

لا تتمكن الشرطة من القبض عليهم، ولكن الصحفي "فيليب غيراند" فقط - وبمساعدة صديقه "أوسكار - كلود مازاميت" عضوّ قديم في العصابة اقتنع باتباع الطريق المستقيم، في محاولة لإيقاف هؤلاء المجرمين الخطرين، لا يُدخر أيّ جهد لمواجهة تصرفات مصاص الدماء الكبير، زعيمة العصابة "إيرما فب"، أو "ساتاناس" خبيرٌ خطير بالمتفجرات، و "فينينوس" سيد السموم. 

..

فوضى عامّة

اشتهر الدادائيون، والسورياليون بممارستهم للفضيحة، حيث كانوا ينشرون الفوضى في المآدب الأدبية، وعروض الأفلام، وحفلات الاستقبال بجميع أنواعها، تلك الفوضى العامة، التي كانوا يتركونها وراءهم، كانوا يحتفلون بها أيضاً في مقالاتهم المُختلفة المكرّسة للسينما الهزليّة، "أنطونان أرتو"، على سبيل المثال، يعتبر أفلام الأخوين ماركس "ترنيمة للفوضى، والتمرّد الكامل"، ينعكس هذا التوّجه الساخر الذي يزيد من التشويش، والتدمير، في العديد من السيناريوهات التي يكتبونها، لا سيما في Les Mystères du Métropolitain (غموض المترو(، حيث يقدم "روبرت ديسنوس" سباقاً مجنوناً يتحول إلى أعمال شغب، ولكن أيضاً في Indifférence (لامبالاة)، حيث يقترح "فيليب سوبّو" "عكس جميع القوانين الطبيعية"، أو في Allons déjeuner sur l’herbe (دعونا نتناول الغداء على العشب)، حيث يخلق "بنيامين بيريه" فوضى ريفية. 

يُذكرنا جنون هذه السيناريوهات التي لم تُنجز، بالإضافة إلى السينما الأميركية الهزلية، الشرائط الكوميدية الفرنسية الأولى. 

في الواقع، يمكن العثور على مبالغاتها التدميرية في Léontine garde la maison (ليونتين يحرس المنزل)، أو La Course aux Belles mères (سباق الحموات)، بينما نجد انحدارها الحيواني في Madame Babylas aime les animaux (السيدة بابيلاس تحب الحيوانات)، أو في Les Incohérences de Boireau(تناقضات بوارو)، ويظهر انفصالها الشعري عن الواقع في Les inconvénients du cinéma(عيوب السينما)، أو Calino arroseur public (كالينو رشاش عام).

الجسد في كلّ أشكاله

انتبه شعراء الطليعة إلى إمكانيات تشوّه، وتحوّل الحقيقي/الواقع الذي تسمح به تقنيات السينما، وهكذا كتب الشاعر "فيليب سوبو": إن "قوة السينما هائلة، لأنها تعكس كلّ القوانين الطبيعية، إنها تتجاهل المكان، والزمان، وتقلب الجاذبية، والمقذوفات، وعلم الأحياء، إلخ.".. 

على الشاشة، تتضاعف الأجسام البشرية كما هو الحال في فيلم "أونيسيم ضد أونيسيم" (Onésime contre Onésime)، وتمتدّ، أو تتقلص كما في "الشرطي لديه ذراع طويلة"( L’agent a le bras long)، تنخلع، وتتقطع كما في "إلى الأمام الموسيقى"( En avant la musique)، "عملية جراحية مضطربة" (Une opération mouvementée)، و"كريتينيتي، والنساء"( Cretinetti e le donne)، ومن الممكن أن يُؤكل جسم الإنسان كما هو الحال في "بوارو، رجل من خبز التوابل (Boireau bonhomme de pain d’épice) .

نعثر على هذا التخيّل الخاص بتفكك الأجسام في العديد من السيناريوهات التي كتبها شعراء كوكبة السرياليين، والتي لم تنجز – مثل "قصيدة في الفضاء III"( Poème dans l’espace III) لـ"بيير ألبرت – بيرو"، أو "بولشيري يريد سيارة"(Pulchérie veut une auto) لـ"بنجامين بيريه" - باستثناء عدد قليل مثل "القوقعة، ورجل الدين" (la Coquille et le Clergyman) عن سيناريو "أنتونان آرتو" من إخراج "جيرمين دولاك" .

غالباً ما كان يُنظر إلى العنف المُقلق لهذه السيناريوهات، ونسيان الوريد الهزلي الذي يكتنفها.

مصنع الحلم

في أطروحته عن الأحلام (On Dreams, 1650) Traité sur les rêves يشير "توماس براون" إلى أنّ نصف حياتنا تحدث في مملكة الخيالات، وأنّ الرؤى، والهيئات، والأشكال الفانتازية تسكن معظم ساعات نومنا:

"النهار يجلب لنا الحقيقيّ، بينما الليل يجلب لنا الخيالات"، وبالتالي، يُفسّر البعد الحلميّ للسينما، والذي لا يتكشف فقط في الاقتصاد السرديّ للفيلم، ولكن أيضاً في المنظومة المادية للعرض: ظلام الصالة، عزلة نسبية يغرق فيها المتفرج، التماسٌ تنويميّ للنظرة، وسلبيةٌ أمام تدفق اللقطات، تباينٌ في الحجم بين الأشكال المعروضة على الشاشة، وجسد المتفرج: إذاً يتشابه العرض السينمائي مع حالة النوم، حيث ينغمس المتفرج في تدفقٍ إدراكيّ حسيّ بدون علاماتٍ، ولا مصادر خارجية، ويصبح في حالة استقبالٍ كاملة.

إن مزج الحلم مع الواقع في أذهان المشاهد هو أحد أهمّ الموضوعات السوريالية التي يمكن العثور عليها منذ بداية السينما، وتسمح التقنية السينمائية باللعب على الخيال، والواقع على نفس المستوى، وخاصةً من خلال تطابق اللقطات، والتحريك صورةً صورة، وغالباً ما يتميّز الجزء الخاصّ بالحلم برسوم متحركة، كما في Le Rêve des marmitons (حلم الخدم) لـ"شومون"، وحلم الطفل في Midnight party .

حيث يسمح الحلم غالباً بالوصول إلى الخياليّ، طفلٌ نائم كما فيMidnight party ، أو لحظة هروب امرأة كما في (Meshes of the Afternoon)، وغالباً ما يفسح المجال لإثارة نشاطٍ جنسيّ مكبوت في اللاوعي، في الإنتاجات الطليعية في عشرينيات القرن العشرين (الفيلم الشهير "كلب أندلسي")، وبعيداً عن أن تكون خالية من الأدب، فإن تلك الأفلام الطليعية تقترض أخيراً من شكل الاستعارة، وتحوّلها كي تجسّد خيالاً بطريقةٍ بصرية: النمل الذي يملأ الكف في "كلب أندلسي"، كما تاج زهور الحداد الذي يتمّ أكله مثل قطعة خبز في فيلم استراحة (Entr'acte).

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top