الإنسانية العابرة TRANSHUMANISM: التعريف بالمفهوم

الإنسانية العابرة TRANSHUMANISM: التعريف بالمفهوم

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

المؤلف : نِك بوستروم

يُلاحَظُ في أوساطنا الثقافية العربية ، والإعلامية منها بخاصة ، خفوت واضح في تناول الموضوعات العلمية

لصالح الإفراط في نمط محدّد من الكتابات الأدبية العامّة البعيدة عن نبض العصر والموضوعات الإشكالية السائدة فيه ، وتتفاقم هذه الصورة الثقافية " الكئيبة " إذا ماأجرينا مسحاً سريعاً للموضوعات الترجمية الشائعة في بيئتنا العربية . 

إنّ هذه المقالة القصيرة ، إذن ، ليست سوى محاولة ترجمية متواضعة للتعريف بمفهوم علمي - ستراتيجي - تقني مركّب له مفاعيله المؤثرة في تحديد شكل الوجود البشري المستقبلي ، وأعني بهذا المفهوم ( الإنسانية العابرة للكائن البشري الكلاسيكي ) - ذلك المفهوم الذي صار منذ عقود ليست بالقليلة مفهوماً مركزياً في الأدبيات الخاصة بمبحث المستقبليات والفروع المعرفية المتّصلة به .

نِك بوستروم Nick Bostrom ، مؤلف هذه المقالة ، فيلسوف سويدي المولد ، وُلِد عام 1973 ، ويُعرَفُ عنه إهتماماته المعرفية ذات الطابع الموسوعي ، وتشمل تلك الإهتمامات خلفية تأهيلية رصينة في ميادين كلّ من الفيزياء النظرية ، علوم الأعصاب الإحتسابية ، المنطق ، الذكاء الإصطناعي ، إلى جانب الفلسفة . 

يعمل البروفسور بوستروم أستاذاً في جامعة أكسفورد البريطانية ذائعة الصيت في الوقت الحاضر ؛ حيث يقود معهد ( مستقبل الإنسانية Future of Humanity ) باعتباره المدير المؤسّس لهذا المعهد . يمثل هذا المعهد مركزاً بحثياً جامعياً متعدّد الجوانب المعرفية المشتبكة ، كما يقوم بمهام مركز حوكمة الذكاء الإصطناعي الذي يضطلع بمهام بحثية في ميادين : سلامة تطبيقات الذكاء الإصطناعي ، الأمان البيولوجي ، الستراتيجيات الحكومية واسعة النطاق في ميدان الذكاء الإصطناعي ، إلى جانب طائفة واسعة من المعضلات الجوهرية الأساسية المرتبطة بالعلم والتقنية . 

نشر البروفسور بوستروم مايربو على مائتي بحثٍ أساسي في كبريات المنشورات البحثية العالمية ، وإلى جانب هذه الأوراق البحثية نشر الكتب المرجعية التالية :

- الإنحياز الإنساني ، 2002 

- المخاطر الكارثية العالمية ، 2008

- التعزيز الإنساني ، 2009

- الذكاء الفائق : المسارات ، المخاطر ، الستراتيجيات ، 2014

المترجمة

الإنسانية العابرة للكائن البيولوجي البشري هي طريقة في التفكير بشأن المستقبل ، ويتأسّس هذا التفكير على قناعة مفترضة بأنّ النوع البشري في شكله ( التطوّري ) الحالي لايمثّل نهاية العملية التطوّرية للكائن البشري وإنما محض طورٍ مبكّر من هذا التطوّر لو أخذنا الأمور على مأخذ المقارنة بالسلسلة التطوّرية البشرية الكاملة . أما من الناحية الشكلية فيمكننا تعريف الإنسانية العابرة للكائن البشري الحالي بالكيفية التالية :

1 . الحركة الفكرية والثقافية التي تؤكّد إمكانية - فضلاً عن الرغبة المتعاظمة في - الإرتقاء الجوهري بالوضع البشري عَبْرَ اللجوء إلى وسائل العقلنة التطبيقية ( مُمَثّلة في التقنيات المطوّرة ، المترجمة ) ، وعلى وجه التخصيص من خلال تطوير وإشاعة الإستخدام الجمعي واسع النطاق للتقنيات الخاصة بكبح جماح الشيخوخة والتعزيز المتعاظم للقدرات البشرية على المستويات الفكرية والجسدية والسايكولوجية .

2 . الدراسة المعمّقة للإشتباكات ، والآمال الموعودة ، والمخاطر الجدّية التي يمكن أن تقترن بتطوير التقنيات التي ستمكّننا من تجاوز عتبة المحدوديات البشرية الأساسية ، إلى جانب دراسة الجوانب المقترنة بالموضوعات ذات الطبيعة الأخلاقياتية المتضمّنة في - والناشئة عن - تطوير واستخدام مثل تلك التقنيات . 

يمكن تصوير الإنسانية العابرة للكائن البيولوجي الحالي بأنها توسِعةٌ وامتداد لفكرة الإنسانية humanism ذاتها والتي يبدو واضحاً أنّ الإنسانية العابرة مشتقّة جزئياً منها . يعتقد الإنسانيون أنّ الكائنات البشرية كينونات مهمّة ، وأنّ الماهية الفردية للأفراد البشريين موضوع جوهري عظيم الأهمية كذلك : قد لانكون - باعتبارنا كائنات بشرية - كينونات كاملة مكتملة ؛ لكننا نمتلك القدرة على جعل الأمور أفضل حالاً من خلال الإرتقاء بالتفكير العقلاني ، والحرية ، والتسامح والأريحية الفكرية ، والديمقراطية ، والإهتمام بأحوال نظرائنا البشريين . 

يتشارك المكافحون عن فكرة الإنسانية العابرة الإيمان مع الإنسانيين بالقيم ذاتها المذكورة أعلاه ؛ لكنهم إلى جانب هذا لاينفكّون يؤكّدون دوماً على القدرات العظيمة الفائقة التي يمكن أن يحوزها الكائن البشري والتي هي خليقة في الوقت ذاته بأن تجعله يتمايز جوهرياً عن الكيفية التي يبدو بها في وقتنا الحاضر ، وبمثل مايمكننا اللجوء إلى الوسائل العقلانية لتطوير الوضع البشري والإرتقاء به وبالعالم الخارجي معاً فيمكننا بالكيفية ذاتها اللجوء إلى ذات الوسائل العقلانية لتطوير ذواتنا والإرتقاء بها ، وبشكل أكثر تحديداً - من الناحية التقنية ، المترجمة - يمكن الإستعاضة عن مفردة ( ذواتنا ) بعبارة ( الكائن الحي البشري ) ، وعندما نكون منهمكين بعبء تحقيق هذا الهدف فليس ثمة من محدوديات تفرضها الضرورة الملجئة ( مثلما هو حاصلٌ اليوم ) توجب الإستعانة بالوسائل الإنسانية التقليدية المعروفة مثل التعليم والإرتقاء الثقافي الشامل ؛ بل في مستطاعنا أيضاً الإستعانة بوسائل تقنية مميّزة كفيلة بجعلنا قادرين على عبور الحدّ الفاصل للعتبة التي يراها البعض خصيصة متفرّدة لنا - أي خصيصتنا الإنسانية . 

ليس الشكل الإنساني في سماته البيولوجية السائدة ، والتفاصيل الخاصة بالبيولوجيا البشرية الحالية هما اللذان يحدّدان ماهو مفيد بالنسبة لنا - نحن الكائنات البشرية - ؛ بل إنّ طموحاتنا العظمى وأمثولاتنا الفكرية وتجاربنا غير المتحققة وأنماط العيش غير المختبرة والتي نتوق لها ،،، هذه كلها هي العناصر التي تُحدّد ماهو مفيد وذو قيمة لنا : بقدر مايختصّ الأمر بمفكّري الإنسانية العابرة فإنّ الإرتقاء البشري يحصل عندما تصبح أعداد أكبر من البشر قادرة على تشكيل ذواتها ، وحيواتها ، وطرق ترتيب علاقاتها بالآخرين طبقاً لما تمليه عليهم قيمهم الشخصية الماكثة في أعمق دواخلهم .

يُفرِدُ مناصرو الإنسانية العابرة قيمة عظمى متعالية لمبدأ ( الإستقلالية autonomy ) : قدرة الأفراد وحقّهم الثابت والمؤكّد في إختيار وتشكيل حيواتهم الشخصية . بالطبع ثمة أناسٌ كثيرون قد يختارون لأسباب عدّة التخلّي عن فرصة اللجوء إلى التقنية للإرتقاء بذواتهم .

يسعى مناصرو فكرة الإنسانية العابرة للكائن البشري الحالي إلى تخليق عالمٍ يمكن فيه للأفراد الإختيار الحرّ بين أن يظلّوا غير معزّزين بوسائل التقنية المتقدّمة أو أن ينالوا التعزيز التقني بها ، وسيكون كلا الخيارين مبعث إحترام كامل من جانب القيّمين على إمكانيات التعزيز التقني المتاحة . يدخل الجنس البشري اليوم عتبة مشهد بشري جديد بالكامل وغير مسبوق في تأريخ النوع البشري من خلال التسارع المتعاظم في التطوّر التقني والفهم العلمي ، وفي المستقبل القريب نسبياً قد يحصل أن نواجه إحتمالات لاتفتأ تتزايد شواهدها تشي بمقدم حقبة الذكاء الإصطناعي الحقيقي* حيث سيتمّ تخليق أنواع جديدة من الوسائل الإدراكية التي تجمع بين الذكاء الإصطناعي وتقنيات وسائط التفاعل البينية Interface Technology . يمكن لتقنية المصغّرات ( النانو ) الجزيئية أن تمتلك القدرة على تصنيع مصادر وفيرة للجميع تتيح لكلّ فرد حيازة سيطرة كاملة على جميع الفعاليات الكيميائية - البيولوجية التي تجري في الجسد البشري ، وسيكون من النتائج المترتبة على هذا الفعل إستئصال كلّ من الأمراض والشيخوخة .

يمكن لتقنيات محدّدة ( مثل وسائط التواصل بين الحاسوب والدماغ البشري ، وعلم الأدوية العصبي ) أن تضخّم الذكاء البشري ، وتعزّز مشاعر الرفاهية العقلية والسايكولوجية ، وتحسّن من قدراتنا في الحفاظ على إلتزام كامل وثابت بمشاريعنا الحياتية المختلفة التي ننغمس في أدائها أو نحبّ أداءها اليوم أو نتطلّع بشغف لأدائها في المستقبل ؛ بل ويمكن حتى توسيع نطاق الغنى الذي يطال بعض مشاعرنا اللذيذة المتاحة لنا . 

لكن على الجانب الحالك من هذا الطيف التقني المشرق يدرك مناصرو فكرة الإنسانية العابرة للكائن البشري الحالي أنّ بعضاً من التقنيات العتيدة الموصوفة أعلاه يمكن لها أن تتسبّب في أذى خطير للحياة البشرية ؛ بل ويمكن أن تمتدّ آثار هذا الخطر إلى حدود يكون فيها بقاء نوعنا البشري عُرضة لمخاطر حقيقية ، وتأسيساً على هذا الإدراك العميق فإنّ السعي لفهم المخاطر المحيقة بتطوير التقنيات العابرة للإنسانية إلى جانب العمل على منع الفواجع الكارثية التي يمكن أن تنشأ عنها إنما يمثّلان عملاً أصيلاً لايمكن حذفه أو إخراجه من قائمة عمل ( أجندة ) الفكر العابر للإنسانية .

يدخل الفكر العابر للإنسانية ميدان الثقافة الرئيسية السائدة في أيامنا هذه وبخاصة بعد تزايد أعداد العلماء والفلاسفة ( ذوي التوجّهات العلمية ) والمفكرين الإجتماعيين الذين شرعوا يتناولون - بأقصى الجدية والتفكّر - المدى المتعاظم للإمكانيات الثرية التي تنطوي عليها تقنيات الإنسانية العابرة للكائن البيولوجي الحالي .

* إشارة إلى شيوع تطبيقات الذكاء الإصطناعي العام AGI المتماهية مع الفعاليات التي لطالما أعتبرت حصرية خاصة بالذكاء البشري ، وبخاصة تلك الفعاليات العقلية العليا مثل المساءلة العقلية لمواقف ذات طبيعة معقدة . ( المترجمة )

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top