TOP

جريدة المدى > عام > ماياكوفسكي وبوشكين

ماياكوفسكي وبوشكين

نشر في: 27 يوليو, 2019: 07:47 م

أ.د. ضياء نافع

لم يعترف ماياكوفسكي بالأسماء الكبرى في تاريخ الأدب الروسي في بداية طريقه الأدبي , مثل بقية الأدباء الذين كانوا ينتمون الى تيّار أدبي وفني

برز في بداية القرن العشرين بروسيا وهو – ( الفوتوريزم ), أي ( المستقبلية ) , ولا مجال هنا طبعاً للحديث عن هذا التيّار ومكانته في مسيرة الأدب والفن في روسيا . كان ماياكوفسكي متحمساً جدا لتلك الآراء , ومتطرفاً كالعادة في مواقفه الحادة , ولهذا فقد رفض حتى بوشكين , انطلاقاً من ضرورة التخلص من الماضي, والارتباط مع الحاضر فقط , والانطلاق منه نحو المستقبل. لقد دعى ماياكوفسكي في تلك الفترة المبكرة من مسيرته الإبداعية الى (...اسقاط بوشكين من منصة العصر الحديث وخلعه والإطاحة به..) , وهذه الكلمات موثّقة ومنشورة في المصادر الروسية عن ماياكوفسكي وعن تيّار المستقبلية وأنصارها عموما . وأذكر أن أحد أصدقائي من الطلبة الروس , الذي كان يدرس معي في جامعة موسكو في الستينيات , والذي كان معجباً جداً بماياكوفسكي , قال لنا مرّة , إنه قرأ حول تلك الفترة من مسيرة ماياكوفسكي ما معناه , إن ماياكوفسكي كان يرغب ان يقود بوشكين الى جدار ويوقفه عند ذلك الجدار ويعدمه رمياً بالرصاص , ولازلت أتذكر الاشمئزاز والامتعاض والاستهجان الذي ساد عند جميع الطلبة من الذين كانوا يستمعون الى ذلك الحديث آنذاك , وقد علّق أحد المستمعين عندها قائلاً – طبعاً - أراد ماياكوفسكي أن يعدم بوشكين لأنه كان يرغب أن يخلق أوزاناً موسيقيّة جديدة ومبتكرة من قبله في مسيرة الشعر الروسي , ولكن بوشكين العظيم كان له بالمرصاد , ولم يسمح له بتاتاً بذلك , رغم أن بوشكين عاش ومات قبل ماياكوفسكي بقرن كامل من الزمن . وفي تاريخ الأدب الروسي توجد حادثة طريفة ( سبق لي أن تحدثت عنها تفصيلاً في احدى مقالاتي القديمة ببغداد السبعينيات حول ماياكوفسكي ) , وأعيد ملخّصها الآن , وهي إن لينين حضر في إحدى مؤتمرات الشباب السوفيتي مرة , وسألهم – ( هل تقرؤون شعر بوشكين؟) , فأجابوه – كلا , نحن لا نقرأ شعر البرجوازي بوشكين , وإنما نقرأ شعر البروليتاري ماياكوفسكي , فأجابهم لينين مبتسماً بجملته الشهيرة والواضحة وضوح الشمس كما يقول تعبيرنا العربي الجميل , إذ قال – لكن شعر بوشكين أفضل . 

موقف ماياكوفسكي من بوشكين بدأ بالتغيّر تدريجياً , إذ إنه صرّح برغبته ( الإطاحة !) ببوشكين في عام 1912 ( ولد ماياكوفسكي العام 1893 ) , ومن الواضح تماماً , إن مثل هذه (الاقوال!) يطلقها عادة الشباب الغض المتطرّف في كل زمان ومكان ( قالها عن بوشكين أيضاً بازاروف – بطل رواية تورغينيف الآباء والبنون ) . إن الآراء الفكرية و المواقف المرتبطة بها, مثل كل البشر, تنضج وتتطور وتتغيّر بمرور الأيام والشهور والأعوام , وهذا ماحدث طبعاً مع ماياكوفسكي , الذي كتب العام 1924 , اي بعد 12 سنة من أقواله المتطرفة تلك , كتب قصيدة طويلة جدا وجميلة ومكتوبة طبعا باسلوب ماياكوفسكي و بعنوان – ( اليوبيلية ) , وهي مكرسّة للذكرى ( 125 ) لميلاد بوشكين , وتوجد إشارة في المصادر الروسية الى أن ماياكوفسكي كتب هذه القصيدة وكان الشاعر ماندلشتام يقرأ له رواية بوشكين الشعرية – ( يفغيني اونيغين ) , رغم أن ماياكوفسكي – كما تشير تلك المصادر نفسها – كان يعرفها عن ظهر قلب تقريباً.

لم يصل ماياكوفسكي طبعا الى قصيدته عن بوشكين تلك رأسا , إذ ألأن آراء المستقبليين وغيرهم من الشباب المتطرّف حول ( الاطاحة!) بالتراث الادبي الروسي ( بما فيهم تولستوي ودستويفسكي أيضاً ) اصطدمت واقعياً بموقف الناس الطبيعي والسليم دائماً من ذلك التراث العظيم , بل أن موقف لوناتشارسكي , وزير التعليم والثقافة السوفيتي الأول ( انظر مقالتنا بعنوان - لوناتشارسكي الفيلسوف والأديب والوزير) من ذلك التراث كان مضاداً كلياً لتلك الآراء المتطرفة تجاه رفض التراث , وقد بدأ موقف ماياكوفسكي من بوشكين يتغيّر , إذ أعلن إنه ضد تحويل بوشكين الى تمثال , أي الى مفهوم ( الصنم!) إن صح التعبير , وإنما هو ( اي ماياكوفسكي) مع التفاعل الحيوي والحياتي بشعر بوشكين , وقد كتب ماياكوفسكي في قصيدته الجميلة تلك كل ما أراد أن يقوله عن بوشكين – 

أنا الوحيد / الذي يأسف / لأنك لست حيّا / ....... أحبك / لكن حيّاً / وليس مومياء .......

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram