د. حيدر نزار السيد سلمان
لم تك عازفة الكمان الرشيقة وهي تعزف بغنج على أرض ملعب كربلاء الدولي تعرف ؛ إن عزفها الهادئ سيثير مزيداً من الضجيج في بلاد اعتادت على الصخب والعنف ،
ولأنها بلاد السواد خيراً، فقد حولها الطغاة المتناوبون بحكمها الى بلاد يلف شعبها الحزن ،حتى أمسى الفرح وكأنه حُلم لن يتحقق ينتظره الناس بلهفة يوم بعد آخر، لكن ما من نهاية لحزن تجذر عميقاً في الوجدان والثقافة.
لم تك حادثة عازفة الكمان الحالة الأولى في إحداث نقاشات وجدل عام يتجاوز النخب والمتخصصين، وربما دراسة تاريخ العراق المعاصر يمكن لها ان تمنحنا معلومات دسمة عن جدلية المشروطة والمستبدة في العقد الأول من القرن العشرين ، وكذا الحال في النقاش والجدل حول قضية التطبير وضرب الرؤوس وشجها وما تناوله السيد محسن الامين في كتابه ( رسالة التنزيه) في هذا المجال ليثير عواصف فضيعة ماتزال آثارها وتداعياتها حاضرة ، كما دار جدل داخل الوسط الديني حول الموسيقى والغناء ضمن ثنائية التحريم والحُلية ، وفي موضوعات متعددة تدخل في إطار المقدس والمدنس أو في باب البدع والهرطقة ،ومامدى اتساقها مع التشريع الديني من عدمه ، بيد ان هذه الأحداث تختلف عن حادثة الكمان اختلافاً في الآليات وأسلوب النقاش ووعائه المنظم والحاكم ؛ فماحدث من نقاشات وجدل في الحالات قبل ٢٠٠٣ ، جرى أولاً تحت منظم سلطوي قاهر تتسم عقيدته السياسية المعلنة بالعلمانية وفصل الدين عن إدارة الدولة ، وثانياً انحصر النقاش داخل إطار في اكثريته نخبوي كان فيه الناس العاديين مستمعين اكثر من كونهم مشاركين بالجدل ، وثالثاً لم تك الآليات والوسائل تسمح بهذا الرواج والانتشار، غير ان ماحصل الآن ان وسائل التواصل الاجتماعي احدثت انقلاباً مدهشاً في الآليات والاساليب ، لتفتح المجال لعامة الناس بالمشاركة الفعالة النشطة ،تجاوزت فيها صفوف طويلة وعريضة من مثقفين وصناع الرأي واكاديميين ليس لهم هوية واضحة وتكاد اتجاهاتهم الفكرية أن تكون غامضة ،يتحركون بانفصام مبين بين السلوك والفعل ،وبين الطروحات ومايسطرون ويكتبون فما حدث إنتقال غير منطقي بالمواقع ، وبعد أن كان النخبوي ؛ يمثل الصوت والقرطاس والقلم ،أمسى صامتاً تائها في بحر إعلامي ودعائي وترويجي تتلاطم فيه أمواج من الغث والسمين ، الحلو والقبيح، كما أن الاطار السلطوي (سنة وشيعة)المنظم اختلف تماماً إذ تمترس خلف ايديولوجيا دينية رابطاً بافراط بين الدين والسياسة و الدولة بشكل غير مسبوق بادارة الدولة العراقية منذ نشوئها في ١٩٢١ ، وكان هذا سبباً اساسياً في تفعيل الجدل والنقاش ليبلغ مرحلة عالية من الاتهامات والسخط والغضب بين طرفين كل منهما يرى في الآخر نداً ، غير ان الجوهر المختفي خلف هذا المظهر مختلف ، خصوصاً ان النقاش يدور حول القيمة الاعتبارية لمفهوم المقدس ، ولمدى تطابق الافعال الحاصلة ومنها حادثة الكمان مع العقيدة الدينية فيبدو التساؤل الحاد؛ هل ماحدث مروق ، وبدعة، وتجاوز على المقدس ،أم انه فعل عصري ينسجم مع الحداثة التي تنطلق كرصاصة سريعة باتجاه الهدف.
لابد من التكرار ؛ إن مايحدث يخفي جوهراً مضموماً تحت مظهر ليس ديني، أصلاً بل هو حراك اجتماعي داخلي معقد ، تمثلت فيه عمليات ازاحة واستبدال لقيم ثقافية قديمة بأخرى جديدة من جانب ، ومن جانب آخر هو حراك تحاول فيه قوى اجتماعية قد تكون في حالات مهمشة أو مسلوبة الحقوق، إزاحة قوى أخرى تمترست بالتدين صدقاً او كذباً لفرض هيمنتها وسيطرتها وتحكمها ، لتحل مكانها، وهي الأخرى تبدي مقاومة صلبة لعملية الإزاحة ، ومثل كلا الطرفين اتجاهين من الاتباع والمؤيدين وان لم يدركوا قيمة افعالهم وحركتهم بيد ان كل منهم يدرك ان له موقف ينطلق من عقيدة او مبدأ أو موروث .
لايمكن فصل حادثة الكمان واخرى غيرها؛ كتصريح لرجل دين معروف حول توسط بريطانيا عند الحكومة العراقية بعنوان (مقدس جليل) لفك أسر السفينة البريطانية ، لايمكن فصلها عن الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد ، ويمكن ان نكتشف بسهولة انهيار في الآمال العريضة التي تخيلها الناس ، ونلحظ أيضا فقدان واضح للمعنى الحياتي عند الكُثر من الشباب وحوادث الانتحار المتزايدة تشير الى ذلك ، لكن الأخطر في ذلك كله ؛ التفكك المتواصل في العلاقة الرابطة بين الأفراد الاجتماعيين والرمزيات الدينية والاجتماعية بعد فقدان للثقة بالطبقة السياسية الحاكمة ، فلم يعد الرأسمال الرمزي فاعلاً كما كان سابقاً، ولم تعد ماتسمى بالخطوط الحُمر ، حمراء، بل استحالة لخضراء ، حيث يُحمل الناس المتضررين وغير المتضررين مايحدث من تهاوي للمنظومة القيمية والأخلاقية ، وتردي الأوضاع العامة تتحمل كل السُلطة مسؤولية حصولها ، وهذا يشمل المجتمع دون تفصيل طائفي او عرقي . من مجمل النقاشات والجدل المستمر حول مفهوم القدسية، فأن المتابع المتبصر سيلحظ ببساطة ؛ ان هناك مشكلة معرفية فكرية لها جذور اجتماعية سياسية قديمة تراكمت بفعل واقع، وماحدث من تطورات في العلاقات الاجتماعية بعد ٢٠٠٣ ، وتبرز المشكلة المعرفية أكثر في تفكيرين متباينين يمثلان اتجاهين ثقافيين ؛ الأول ينظر من منظار النقمة والسخط على السُلطة السياسية والاجتماعية والدينية بوصفها سبباً في مايحدث من مآسي وتراجع واندثار للقيم والاعراف ،وسبب مشكلات الفقر وفقدان السيادة الوطنية ،وهنا فأن مفهوم السيادة عاد بقوة نتيجة تفاقم مشاعر وطنية مكبوتة أيقظتها سلطة سياسية خاملة ربطت نفسها بمشاريع خارجية ودفعت بالعراق من دور المؤثِر الى دور المؤَثَر فيه بصلافة غير معهودة ، لهذا وغيره تجر هذا الاتجاه نقمته لتجاوز موروث وتراث وربما عقائد كرد انتقامي من الذين يرى فيهم سبباً في الخراب الكبير وسببا في تهشيم احلامه وتطلعاته بالعصرنة كما هو حال شعوب الارض الثرية ، فقد وجد نفسه تحت رحمة الانكسار وفقدان الأمل مرة ، وبروز طبقة منتفعة جديدة فاقدة لأصول وسمات الطبقة العصامية والنزيهة وفي حقيقتها تكونت من مغانم السلطة والعلاقات القرابية والحزبية،اما الاتجاه الثاني ؛ هو يريد الفصل بين هذا الموروث والثقافة السارية ، وبين السُلطة المذكورة ، إذ يرى أن الموضوع يتعلق بالعقيدة والقداسة وليس من الضروري ربطه باصول الخراب والفساد ومَس السيادة الوطنية وهذا الاتجاه يمتلك مبررات موقفه رغم انه يقف في جبهة متشكلة من باقة تمثل السُلط المذكورة ، فمهما يك فأن الاعتبارات العقائدية والتراثية لابد أن تراعى وبحادثة الكمان فان ظهور الفتاة العازفة هو بحد ذاته تحدي لهؤلاء وهذه الحقيقة يعرفها جيداً سكان هذه المدن الخاضعة لتقاليد وقيم مميزة، كما ان لرجال الدين هيمنة واضحة فيها ، هنا يتحول النقاش الى جدل يتسم بالصلف والقسوة من الاتجاهين ، وبكل الأحوال لكل طرف حججه ومصطلحاته التي يدافع فيها عن موقفه الذي هو باصله صراع يمور داخله صراع اجتماعي أقسى بين من يرى في هذه المظاهر تحدي للسُلطة المتنفذة بعناوينها ورمزيتها المثلومة ، والتي أوجدت هذه الصلة بين إدارة الدولة والسياسة والعقيدة الدينية ، فحق عليها التمرد والتحدي ، وبين من يرى ان العقائد والموروث والمقدس لايمكن ربطه بفئة سواءاً كانت فاسدة او نزيهة ، ويرى إن القيم لابد أن تبقى محمية بعيداً عن الجدل السياسي وصراعاته ، الأمر الذي لايمكن قبوله من الجهة المتحدية الباحثة عن مكان لها ، وعلى هذا الاساس فان الصراع سيستمر بتمظهرات جديدة وباسبابه المذكورة ، ولنا في النموذج الايراني مثالاً حيث دار صراع مشابه في بداية حكم رجال الدين انتهى بتوافق غير مكتوب على أن يدع كل طرف للاخر اسلوبه وانماطه الحياتية الخاصة ، اذ ادى رجال الدين في ايران دورهم بذكاء عندما قدموا تنازلات مجبرين ،تجاوزوا فيها المقدس ليبقوا على سلطتهم .
اترك تعليقك