ياسين طه حافظ
أول من أثار هذا الموضوع في ذهني هو كتاب للسيد لويس ممفورد "المدينة على مر العصور "والذي صدرت طبعته الثانية " مصورة " عن المركز القومي (2016).
وحين استعرضت ما في المتحف العراقي يوماً كان اهتمامي بالأشياء الخاصة، آلات، أدوات زينة، ممتلكات أخرى. ليس المهم هو المشترك العام ولكن المهم هو الحيازة الخاصة فبالتأكيد ليست هناك عشرات من القيثارات- ولكنها واحدة وربما وجدت أخرى فهي حيازة خاصة متميزة أو متفردة لها دلالة على تفرد مالكها أو مالكها وتميزه . الخاص يبدأ صفة امتياز ثم يتسرب من ذلك الفرد أو مجموعة الأفراد المتميزين لأن يكون لدى عديدين آخرين وربما يكون عامّاً.
وقد ورد في الكتاب المذكور.
" ولم تتسرب إلا ببطء أساليب الأرستقراطية الى باقي السكان، من حيث توزيع الحجرات وتخصيص كل منها لغرض معين ، فأسباب الراحة التي كان ينعم بها النبلاء وحدهم في القرن الثالث عشر لم تصبح شاملة يستمتع بها عامة الناس إلا في القرن السابع عشر.."
بعض من هذا الخاص يتسرب ببطء شديد وقد يتوقف بعد قليل إذا لم يصادف ظرفاً مساعداً كان يكون تطوراً اقتصادياً وتحسن ظروف عيش يساعد على الاهتمام بما هو خارج الحماية والخبز، أي خارج السقف الحامي من النوء وتوفير الطعام وردع خطر الافتراس أو الموت..
ليست لدينا أمثلة كثيرة لمكتبة آشور .. قد لا نعدم تجمع الواح، وثائق وسجلات معاملات يومية. لكن أن نجد مكتبة تخرج الى الشأن الثقافي والى نصوص الأدب والبوح الشخصي، هذه نادرة لم تتكرر، الا بعد عصور. هي تواجدت بعد الميلاد فعرفنا خزانات كتب وعلوم وأدب.
وتسرب هذه الخاص النادر ببطء بين طبقات ذوات رفاه حتى وصلتنا اليوم لنجد في بيوت المئات من الناس مكتبات خاصة. مخصصة لها غرف وخزانات وعناية، يرونها واحدة من اأملاكهم ومن امتيازهم الاجتماعي.
سؤالي الآن، إذا كانت مادة التفرد او الامتياز تستغرق عقودا او قروناً من السنين وقد لا توفق في المرور فتذبل في أماكنها او تخبو، لماذا نستعجل الخاص المستحدث في الادب والفن وننكر عليه أهميته أو فعله بسبب ضيق المساحة التي يشغلها أو التي يبزغ فيها؟ ألا يستحق الجديد أيضاً زمناً كافياً ليتسع حضوره؟
في المصدر الذي أشرت له، مسألة تهمنا هي: إن منزل العصور الوسطى شهد تغيراً أساسياً هو تنامي حب الاختلاء . وقد كان ذلك يعني الاعتكاف ، اعتكاف الفرد عن مشاركة غيره أو رفاقه في حياتهم أو مشاغلهم. ومنها الخلوة في المواسم الدينية والاجتماعية، والخلوة في التفكير وقد امتد ذلك ليشمل طهي الطعام وخصوصيته او افضليته، فنرى أطباقاً تختلف عن العام الشائع.
ولعل في عمل بروست العظيم: البحث عن الزمن الضائع نجد قمة تطور الخاص وسرعة تسربه لشخوصه: نماذج من ممتلكات شخصية بماركات مفضلة وأسماء. ففي ذلك العمل الروائي نجد الذات بكل اهتماماتها وما تختص به وتمتاز، فثمة الشراب الخاص و العطر الخاص، المميز بل الحلية الخاصة، ليؤطر كل ذلك العواطف الخاصة والتأملات الخاصة والفهم الخاص و الاخلاقيات الخاصة. نحن هناك نجد انسانية استطاعت ان تبتعد عن العادي او العام. نجد بلغتنا اليوم استقراطية جد متميزة بين الطبقات الثرية، ثمة ثقافة خاصة وتقاليد من لغة الكتابة الى لغة الحب. ومن نوع الحرير وألوانه الى تصفيف الشعر والعلاقات الغرامية. صار هنا واضحاً الابتعاد عن التباين والميل الى الانسجام . انسجام الألوان والأمزجة والثقافة والمدنية. ثمة ارستقراطيات "خاصة، محدودة"، مجموعات داخل الطبقة، وصولاً الى الخصوصيات والامتيازات الفردية. كل هذا بعيداً عن اختلاف وتباين الأمزجة و الأغراض لدى الطبقات الاخرى..
كلما تطور الانسان متقدماً، كلما اهتم بإبراز خصوصياته، نزوات، رغبات، أذواقاً وأفكاراً وطريقة سلوك وعيش – يصحب هذا التطور دائماَ الابتعاد عن الجلافة والغلظة الى الرقة والابتسامة واللطف، حتى أوصلنا ذلك الى هذا الغزل الجميل و" العِبادي" في المرأة بل أوصلنا الى عبادة وتقديس نماذج منهن، ولعل عبادة وتقديس العذراء مثلاً. كما أوصلنا ذلك الى نماذج بشرية صارت أمثلة أو نماذج في السلوك والكلام واللياقات المدنية. ليست هذه عيوباً. هي أخلاقيات وطباع تبلورت بعيداً عن العام.. قد تكون هذه بذوراً جيدة، أو غير جيدة، لتقاليد عامة في المستقبل. الزمن يعرف جيداً كيف يختار من الكثير البعضَ القليل الذي يبقى...
اترك تعليقك