بغداد/ محمد جاسم
عدسة/ محمود رؤوف
كعادته في تكريم واستذكار الأبطال من رموز المجتمع العراقي من أصحاب المواقف المشهودة بنضالهم من أجل الوطن،
استذكر بيت المدى في المتنبي المناضل عبد عباس المفرجي، الذي مثل نموذجا للانسان البسيط المكافح من أجل بناء وطنه والذود عنه وعن أبنائه. المفرجي ولد في عام 1914 في كرادة مريم منطقة العباسية. وبعد إكماله الدراسة الابتدائية عمل في السكك الحديد كمساعد سائق قاطرة علما أنه لم يكن هناك سائق قاطرة عراقي والموجودون كانوا من الهنود والإنكليز. في عام 1936 كان من المنظمين لإضراب عمال السكك الحديد الذي دعا إليه الحزب الشيوعي في بداية تأسيسه.
أول سائق قطار في العراق
في نهاية الثلاثينيات أصبح أول سائق قاطرة عراقي. في نهاية عام 1945 أسهم في تهريب عدد من كوادر المؤتمر الأول للحزب في قطار طوروس إلى تركيا، وكان من بينهم صديقه الشخصي عبد تمر. كان على رأس متظاهري عمال السكك الحديد في مظاهرات عام 1948 والتي أدت إلى فصله ومطاردته.عام 1950 عاد إلى العمل كسائق قطار. عام 1952 حين افتتح جسر الصرافية من قبل الوصي على العرش، كانت من مراسيم الافتتاح عبور القطار، وقبل الافتتاح بساعات تخاذل السائق الهندي بقيادة القطار ورفض القيادة، فاستعانت السكك بالسائق عبد المفرجي لقيادة القطار وفعل ذلك وتم تكريمه من قبل الوصي. كما شارك في كل التحركات الجماهيرية في الخمسينيات، منها مظاهرات 1952 و1956، عام 1963 اعتقل بعد انقلاب شباط الأسود، لمدة قصيرة لحين القبض على أخيه فاضل عباس الذي كان نائبا لرئيس نقابة السكك عندما كان نقيبها علي شكر.
مات مسموما
في تموز عام 1963 تم الإيعاز له من قبل الحرس القومي بقيادة القطار إلى نكرة السلمان وكان الحضور في محطة القطار هاني الفكيكي ورشيد مصلح وعبد السلام ومصطفى الفكيكي، وأمروه بقيادة القطار بسرعة بطيئة ومحددة بحجة وجود بضاعة حساسة.. وصعد معه رجل أمن إلى القاطرة.. وعندما علم بوجود سجناء في العربات انطلق بأقصى سرعته ووصل بهم إلى السماوة.. وجيء به مخفورا إلى بغداد ليعتقل ثم يفصل من الوظيفة. وخلال حكم البعث تم استدعاؤه إلى الأمن أكثر من مرة.عام 1987 تم اعتقاله لمدة يومين وعندما خرج من المعتقل توفي بعد ساعات ما يؤكد إعطاؤه السم في السجن.
النخوة العراقية
جلسة بيت المدى في المتنبي خصصت له. وقدمها الكاتب "توفيق التميمي" الذي قال إنه مواطن عراقي شريف يعمل سائقا للقطار. لكنه شرف العراق بلحظة تاريخية بالغة الخطورة للتعبير عن أجمل ما في الروح العراقية من إيثار وشجاعة وبطولة. واستجاب للنخوة العراقية الأصيلة. هذا المواطن لم تحتف به كتب التاريخ كما يليق به، ولم تحتف به الدراما العراقية والسينما كما يليق به. وافترض لو أن هذا النموذج موجود في مصر مثلا لكانوا قدموه في السينما والتلفزيون ووثقوا قصته سياسياوأدبيا. وأضاف:- بصفتي باحثا صغيرا في الذاكرة العراقية وكتابة سيناريوهات للأفلام الوثائقية سعيت لهذا المشروع وبذلت جهدا ووقتا في سبيل ذلك.
الصور تعطل الفيلم
وأضاف وقد استجاب لي بعض الناجين من الضباط في قطار التحدي وقدموا شهاداتهم وذكرياتهم عنه وأعطونا كل شيء باستثناء الصور وماعدا الواقعة، وبحضور المخرج الرائع طالب محمود السيد. سوى الصورة المنشورة في ملحق عراقيون. وحتى عند عائلته لم نجد الصور التي تعيننا في الفيلم . ولأن الفيلم الوثائقي يعتمد بالدرجة الأولى على الصورة لتوثيق الحدث، لذلك تأجل مشروع الفيلم. وأدعو عبر المدى جميع من شارك بقطار التحدي من الأحياء إذا كان يمتلك صورة للحدث حتى نعيد إحياء المشروع ونكمل. ولابد من أن أحيي المؤرخ علي كريم سعيد وكتابه البيرية المسلحة الذي سلط الضوء على عبد عباس وجعلنا نفكر باستذكاره.
رسالة كفاح الأمين
وقرأ التميمي رسالة صديقه الباحث الفوتغرافي "كفاح الأمين" الذي اعتذر بسبب وفاة شقيقه وقال (تمنيت أن أشارككم لحظة الزهو التي تعيشون فيها الآن لاستذكارسائق قطار الموت، أمام جحافل الفاشست التي سرقت منا أجمل لحظات العمر. وزرعت فينا حزنا ما بعده حزن. وأتساءل هل لا يوجد طريق آخر في العراق سوى طريق الحزن والآلام؟ متى نغادر القسوة والموت اللا مجدي إلى السلام والحرية. وأدعو كل العراقيين إلى مغادرة الحزن والألم.
54 سجينا
الناقد حسب الله يحيى قال:- لقد تعرفت على عبد عباس من خلال شخصيات وطنية منهم الضابط نورالدين أبا غسان والشاعر ألفريد سمعان. وقد ظلت حياته وتضحياته الفذة عالقة في ذاكرتي، هذه التضحية البارعة أنقذت 54 إنسانا برعت السلطة آنذاك في تنفيذ جريمة القطار الذي يقوده عبد عباس، وكانت خطة جهنمية للقضاء عليهم بطريقة غريبة. حيث وضعوهم في قطار مليء بالزفت في شهر تكون حرارته في أقصاها. وللأسف لم تأخذ الحادثة صداها في الدراما العراقية ولا في الأدبيات التي نشرت بعد عام 2003.. وأضاف:- وقد كتبتها بقصة نشرت في جريدة الدستور الأردنية باسم مستعار طبعا ونشرتها ثانية عام 2008 في كتابي حكايات ما بين النهرين. براعة هذا الرجل أنقذت الكثير من اليساريين والوطنيين بينهم أطباء وأدباء تم اختيارهم بعناية للتنكيل بهم وقتلهم. وهو يحمل حسا وطنيا نادرا في ظل الجوع والتعسف السلطوي افتقدناه اليوم مع الأسف. وقمت بتحويلها إلى نص مسرحي نشر في المدى وتحول إلى فيلم وثائقي في لندن، ثم عرض في جامعة بغداد. وللأسف لم يأخذ صداه الإعلامي.
وقال السيناريست علي صبري:- لفتت انتباهي حادثة قطار الموت فقررت كتابة فيلم عنها. ولم اكتف بما كتب عنها، بل بحثت عن شهود عيان، فتعرفت على السيد سلطان ملا علي من أهالي البصرة من الشيوعيين العسكريين. وقال لي أشياء كثيرة لم تذكرها المصادر أبدا.ثم التقيت بالأديب ألفريد سمعان وزودني بمعلومات جيدة. فكتبتها بمئة وأربعين صفحة وبمئة مشهد سينمائي. تتناول لحظة انطلاق القطار من بغداد للسماوة ومعاناة المساجين داخل القطار. وكان ذلك قبل أربع سنوات.. لذا أدعو مؤسسة المدى إلى أن تطبعه ككتاب. وعرض عليّ الاستاذ مفيد الجزائري أن أحوله إلى مسلسل تلفزيوني وفعلت. وأقول للأستاذ حسب الله إن الدراما تناولت الواقعة دراميا كفيلم ومسلسل لكن أليس هناك من ينفذه؟!
دعوة لتحويل الحادثة إلى مسرحية
وقال المخرج طالب محمود السيد:- لأننا أنا والتميمي لم نستطع إكمال الفيلم الوثائقي بسبب عدم وجود صور للبطل والأحداث، ووثائق تغني الواقعة. لذا اقترح على كتاب المسرح أن يحولوا الفيلم إلى مسرحية. كما تحدث عن شخصية عمه وهو أحد الموجودين في القطار آنذاك فقال:- هناك ملحمة في الحدث فكانت الناس تستقبل القطارمن الجانبين بالماء فترشقه عليه، وكأنه عريس في زفة، والقطار يمشي بسرعة ويحمل الزفت المغلي والمساجين في آن واحد.
إعادة مراجعة التاريخ كثقافة
وقال الناقد علي الفواز:- لا بد من المزاوجة بين فكرة الانتماء وفكرة الإيمان والبطولة والأخلاق، والتاريخي والسردي. وعلينا مناقشتها في سياقها الثقافي، صحيح أنه حدث تاريخي وسياسي لكن جوهره ثقافي لأن الضحايا في القطار كانوا مثقفين. ميشيل فوكو تحدث عن القمع والسلطة والعنف، لكنه لم يتحدث عن لحظة آنية إنما تحدث عن تاريخ العنف والسجن والقمع منذ القرون الوسطى لأنها مهدت لانتاج ظاهرة العنف والقسوة هذه. في العراق علينا البحث عن خلفيات العنف والقسوة ولماذا يعدم القائد السياسي والثقافي والنقابي، وهم ثالوث يمثل الضمير الأخلاقي وشكلا ضديا للسلطة. ودائما يذكر القائد وتوثق نضالاته. أما البطل الهامشي والإنساني فننساه أو يذكرهامشيا. كما حصل لحسن سريع وعبد عباس وغيرهم. وهذا يحفزنا على إعادة مراجعة التاريخ كثقافة كي نعيد الاعتبار لكل الهامشيين أو الأبطال الأخلاقيين. وعلى الدراميين أن يعوا قيمة البطولة عند هؤلاء عند كتابة نصوصهم. و حتى في الأدب علينا أن نعيد اكتشاف رعب السلطة. وأضاف الباحث رفعت عبد الرزاق: حدثني الضابط والطبيب رافد صبحي أديب أحد سجناء القطار وهو يحمل في أربعة (فاركونات) 440 شخصا، والأربعة الأخرى فيها الزفت المغلي. ومن السجناء كان الضابط حسن عبود، وغضبان السعد وعبد العزيز بالطة ومكرم الطلباني وعزيز الشيخ وجليل منير وألفريد سمعان وأحمد البامرلي. واعتقد جازما أن ما أهملناه في التاريخ كثير جدا. كما تحدث الموثق هادي الطائي فقال:- الوثيقة ضمير أمة وعقلها الأمين.وللأسف فضائياتنا لا تهتم بذلك. وأذكر أنني سجلت في غير فضائية أحاديث موثقة لكنها لا تبث لأن قناعاتي تعاكس قناعتهم كما حدث في قناة الحرة. وتحدث عن وثائق تلك الفترة. ثم تحدث نجل عبد عباس الناقد علاء المفرجي فقال:- والدي لم يكن شيوعيا وقت حادثة القطار. لكنه صار شيوعيا بعدها ويمكن أن أصفه كمؤسس في الحزب. وساهم عام 1945 بتهريب بعض كوادر المؤتمر الأول للحزب بقطار طوروس. كما تعرض لضغوطات السلطة الملكية إلى حد عام 1958. كما أن سجناء القطار لم يكونوا كلهم من الشيوعيين بل ضباط عسكريون وشرطة ومثقفين ووالدي تعاطف معهم بدافع إنساني. وهذه الحادثة لم يتوقف عندها الحزب الشيوعي حتى في نشرياته بعد 2003. وفي الاحتفال بالذكرى الثمانين للحزب أدرجت في الاحتفال فقرة عن والدي ثم شطبت بأمر أحد أعضاء الحزب لأسباب شخصية وربما يتعلق الأمر بي شخصيا. وتمنيت أن يكون الاحتفال من قبل الحزب الشيوعي وليس المدى ورئيسها الشيوعي الكبير فخري كريم. وبالنسبة للصور أعترف بتقصيري وتهاوني بعدم تزويد كادر الفيلم بالصورة المطلوبة لكني أعدهم بالإيفاء بذلك قريبا لكي نكمل الفيلم.
اترك تعليقك