الوردي ما يزال شاباً رغم رحيله

الوردي ما يزال شاباً رغم رحيله

نوزاد حسن

ينشغل المثقفون عموماً بالخلود المعنوي لكتبهم,ويبدو أن فكرة خلود كِتاب من الكتب هو طموح يبحث عنه جميع المثقفين.

فالنحات يشعر بالرضا الكبير حين يزين تقاطع أحد الشوارع تمثالاً تنحته يداه.والشاعر يحلم أن يظل ديوانه حياً من بعده. والروائي يفكر في الشيء نفسه. هذه هي مدن أحلام المثقفين المعقدة,فبعد رحيل الجسد يظل الكتاب خالداً باقياً وكأنه علامة ضوئية برّاقة تشير الى مؤلفه.شخصياً لا اعرف ولا يعرف أحد من الناس ما الفائدة التي يحصل عليها النحات الميت إن وضع عمله النحتي في أحد الشوارع.

هل سيحس الوعي أو العقل الذي يتعرض للتحلل بمتعة من نوع ما حين يتأمل أحد الأشخاص نصب الحرية مثلاً.هل ستحس روح جواد سليم بذلك الإنسان الذي يقف متأملا النصب الذي أبدعه هذا الفنان الكبير.؟ ما العلاقة بين روح جواد سليم وروح هذا الفرد الذي ينظر بقلب مفتوح الى تحفة الفنان الراحل.هذه الأسئلة غامضة جداً,وأفق الإجابة عنها أضيق جدأ مما نظن.

لقد أردت في حقيقة الأمر أن أشير الى همٍّ يعاني منه المثقفون جميعاً وهو الى أي درجة ستصمد روح هذا الكاتب أو ذاك أمام فناء الجسد المبدع، وكأن المثقف يفكر إن موته يعني شيئاً واحداً مفاده إن ما كتبه سيكافح للبقاء دون حضور المؤلف. لنقل إن الكلمات التي نشرت على شكل كتاب لن تجد دعماً من سيدها المؤلف الراحل.ستظل وحدها تشق طريقها في العالم الاجتماعي.وهذه مهمة صعبة جداً لأن حضور المؤلف يعني أن الواقع الاجتماعي يتأثر بهذا الحضور وما يفرضه من علاقات ومجاملات.

لا اعتقد أن علي الوردي كان يفكر كثيراً بهذه القضية أعني قضية خلوده الثقافي المعنوي.هو كان يعرف أن كتبه مقروءة ومتداولة شعبياً على نطاق واسع,لكنه وهذا رأيي لم يكن يظن أنه سيظل حاضراً الى هذا الحد. ولهذا علينا أن ننتبه الى بعض المفاهيم التي تسود الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية.مثلاً الى أي حد ينطبق حديثنا عن صراع الأجيال على كتب الوردي.إن القضية المسلم بها هي إن أي جيل ينظر الى زمنه على إنه الأكثر حضوراً,ويكون الأشخاص الأكبر سناً منتقدون للظواهر التي يشاهدوها ولم تكن موجودة في زمنهم. الزمن يفرض إيقاعه على الجميع لكن الذين ما زالوا في مقتبل شبابهم يمتصون كل الخبرات التي يصادفونها دون توقف.وأي نقد يوجه لهم يفسر على أنه عدم فهم لواقع الحياة التي لا يفهمها من هم أكبر سناً.

في مثل هذا البحر الهائج تتم تصفية الحساب مع الثقافة. فكما ينظر الشاب الى ابيه أنه من زمن آخر ينظر الى الفن والشعر كذلك على أنها من زمن آخر بعيد لا ينتمي اليه. وهناك شعر ورواية وصحف تتعامل مع واقع اللحظة الراهنة وهذا هو المهم لأن الزمن في اعتقاد الشباب جميعاً ما زال يافعاً مثلهم لأنه حصتهم وحدهم. لذا كيف نفسر أن شبّانا في في بداية العشرينيات يتحدثون عن الوردي وكأنه زميلهم في الدراسة,ويفخرون إنهم يقرؤونه دون ملل.أنا أتحدث مع الكثيرين,وفي ذهني خطة استطلاع شامل للرأي عن إقبال الفتيات والشبان على قراءة كتب الوردي دون توقف.اذن كيف أفلت علي الوردي من مصيدة صراع الأجيال وظلت كتبه تطبع بلا توقف.؟ ما السر الخفي الذي جعل من كتب هذا الاستاذ العظيم حاضرة ومنتشرة الى هذا الحد الذي يحلم به أي مثقف. ولو إننا نملك صناعة كتاب لعرفنا كم بيع من كتبه حتى الآن. لكن مثل هذه التفاصيل لا يهتم بها أحد هنا لأننا نعتقد أن انتشار كتاب من الكتب قد يرجع الى قوة حظ هذا المؤلف أو ذاك.

وعلى هذا الأساس نسفت كتب الوردي جدلية الصراع بين الابن وأبيه.ففي الوقت الذي يكون فيه رب الأسرة قديماً وآتياً من عالم بعيد عن عالم الابن أو الحفيد يخضع هذا الابن تماماً لأفكار عالم اجتماع قديم نسبياً، لأن أكثر كتبه صدرت في الخمسينيات باستثناء البعض القليل منها.ومع ذلك فهي تسحر الجميع بلا استثناء.حتى الذين يكرهون الوردي هم يفعلون هذا بقلب مغلف بالحب. إنهم تُعساء لأن الوردي لم يكتب ما كتب إلا لجعلنا نفهم أكثر بعيداً عن أكاذيب نظنها حقائق منزّلة. لذلك لن يفلت أحد من قدر قراءة هذا العالم الكبير. ولن يخضع الوردي لأي منطق يتعلق بصراع الأجيال لأنه أكبر من جدل هذا الصراع المقيت المكروه بالنسبة إليه.من هنا أستطيع القول إن الوردي لم يكن يتوقع أن تعيش كتبه وتظل خالدة لسبب بسيط هو إن الانسان يعيش في قوقعة اجتماعية يبنيها المجتمنع من حوله.وقلما ينجو منها. لذلك تعود شهرة الوردي الى منتقديه وكارهيه الذين ينقلون عدوى الفضول لمن يفكر في قراءته..إذن هي روح صافية جداً تلك التي تخلصت من جدل حرب الأبناء والاباء، وسيطرت على جميع كارهيه فنفخوا في سيرته لتبقى.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top