نصُّ يحكيه أعمى راءٍ ..

نصُّ يحكيه أعمى راءٍ ..

خضير اللامي 

" حين يجلس الكاتب ليبدأ بكتابة روايته ، فإنَه ينبغي أنْ يفعل ذلك ؛ لا لأنه يجب أنْ يحكي قصة ؛ بل ، لأنّ له قصة يجب أنْ يحكيها . ." ترولوب .

 

في البدء ، لا يمكن الحديث عن كل شيء هنا ، في هذا النص الروائي المُسهَب في تفصيلاته الدقيقة، وبعدد صفحاته التي تبلغ 317 ، صفحة من القطع المتوسط ، ذلك أنه أي النص ، يتسع لكثير من احداث وحوارات وتأويلات ، فضلا عن قابليته لإجتراح نصوص عدة ؛ رغم قلة شخصياته ، التي تحتاج هي الأخرى الى إفراد موضوع لكل منها ، ناهيك عن التقنيات التي استخدمها السارد طه حامد الشبيب على مساحة النص . وهنا ، سأركز في مقالي هذا ، على شخصية حمادي الأعمى ، بوصفه الشخصية الرئيس في هذا النص حسب ، الذي تولى السرد الروائي ، وما يحيط به لأنطلق منه لتناوله إيّاه ، وربما اعود ذات يوم لتناول ثيمة أخري ، ذلك أنَّ معظم شخصيات هذا النص تحتاج الى تناول تحليلي دقيق . ناهيك عن احداثه وتقنياته الفنية . وعلى سبيل المثال ، لا الحصر ، أنًّ الصراع الدموي بين القوميين والشيوعيين وافرازاته السلبية على الشعب العراقي ، في ستينيات القرن الماضي ، يحتاج هو الآخرالى موضوع منفرد للحديث عنه ايضا لمن يستهويه سرد المناخ التأريخي الفني . 

لذا، ففي مقالنا هذا ، لا بد مِن أنْ نطرح سؤالا قد يكون كبيرا ؛ عن سارد هذا النص الروائي، ونتساءل ؛ هل هو كاتب واقعي ؟ بمعنى آخر ، هل هو كتب بواقعية جميع أعماله أو بعضها ؟ وفي هذا النص بالذات ؟ هذا ما سنراه في سردنا هذا، للروائي الكبير طه حامد الشبيب . مِن أول سطر ، الى نهاية آخر سطر .. ومن خلال عمق النص ورموزه ، وتنوع شخصياته ، وتأويلاته ، وجمالياته وتقانته، فضلا عن الشخصية الرئيسة ، التي اطلقنا عليها الأعمى الرائي ، ليتماهى مع النص الذي يستولد نصوصا أخر، في فضاءات متن هذا العمل الروائي ، ناهيك عن إسلوبه الرشيق، الذي يثبت لنا بالدليل القاطع ، أن الروائي طه حامد الشبيب ليس ساردا واقعيا بالمعنى الواقعي حسب، بل ، هو يتخيَّل بما هو واقع ليحوّله الى تخييل ؛ أو ربما حدث هذا فعلا كما نراه ، في سلوكيات الأعمى الرائي الذي يهيمن على متن السرد الروائي هذا . 

إذن ، هذه رواية ، أو نص ، ثلاثة أرباعه الغاطس في الماء ، حسب آرنست همنغواي ،Arnest Hamingway ، إنْ صح التعبير، أو تحكي لنا شيئا آخر ، شيئا ما وراء نصها ؛ وليس كما جاء في تورية الروائي طه حامد الشبيب في عنوان روايته " عنْ لا شيء يَحكي ." الذي يرسم لنا فيها صورة بانورامية عن مجريات الاحداث والوقائع الجزئية منها والتفصيلية. وهي قصة أرض خراب ، دمار ، اختفاء كل شيء ، في الوجود وانتهت بنهاية مفجعة ، لا مثيل لها ، نتيجة صراع و تناحر ، بين قوى سياسية، في فترة ستينيات القرن الماضي، نسجها السارد طه حامد الشبيب وانهاها ، بخاتمة تراجيدية لثيمتها ، ولشخصياتها التي لا مثيل لها ، وبخاصة شخصية الأعمى حمادي الذي يهيمن على سرد هذا العمل الروائي. وفيها نرى تَعدد تناول القاريِء إيّاه. بمعنى أنها قابلة للتأويل ، واجتراح نصوص أخرى ، إبتداءً مِن مستهلها الى نهايتها مما يضفى عليها جمالية ولمسات سحرية ، بلغتها العربية الشفيفة ولهجتها الشعبية .

وهنا ، في هذه التورية ، أي في عنوان السرد الرئيس ؛ " عن لا شيء يحكي .. " يعني أول ما يعني قابلية هذا النص الى إستيلاد نصوص أخرى؛ وهو سيبقى نصا تأويليا بإمتياز ، بمعنى آخر نصا قابلا لإجتراح نصوص أخر، أو بمعنى آخر، أن النص هذا ، يستولد نصوصا بتعدد قراءاته . وهذا يعني أول ما يعني ، حيوية النص الروائي الأصلي بقدرتعدد اجتراحات نصوصه كما قلنا. وعلى وفق اصحاب نظريات ما بعد السرد ، اوما يسمى نظرية موت المؤلف ، امثال رولان بارت ، ودو سيسير ، وجاكوبسن ، وفنجشتن ، وفوكو ، وجاك دريدا الخ ..فهؤلاء هم مؤسسو فلسفة اللسانيات التي تركزت مفاهيمها على النصوص الابداعية حصريا .. 

اذن ، دعونا نتحدث عن شخصية الأعمى الذي هو السارد الرئيس في هذه الرواية ، وهو الذي يدير دفة سرد الأحداث وتداعياتها وملابساتها بجدياته وتهكماته ؛ فضلا عن سخريته ، وتندره، التي يتباهي بها بخاصة امام شلته . وقد يتوهمن القاريء ذلك ، أنّ ثمة ساردا آخر ، يظهر بين الفينة والأخرى، ويكاد المتلقي لا يصدّق أنَّ السارد الأول لجسد هذا النص هو حمادي ابن عمران الفحام الأعمى ؛ و كما أراد المؤلف ؛ بيد أننا نفجأ تماما أنّ الاعمى حمادي هذا ، هو واحد من بين شخصيات العمل السردي وإنْ تولى معظم سرد العمل الروائي ، في هذا النص وان كان الشخصية الرئيسية . وقد ينصرف ذهن القاريء وانا واحد منهم الى شخصية الأعمى في رواية العمى لخوزيه ساراماغو ، وهي ايضا الشخصية الساردة الرئيسة في الرواية تلك. وقد يتوهمن القاريء ذلك ، وانا اتحدث هنا عن رواية الشبيب أنَّ ثمة ساردا مجهريا ، يظهر بين الحين والاخر ، ويكاد المتلقي لا يصدٍّق أن السارد الاول على مساحة هذا النص هو الاعمى الرائي والناصت في آن . بيد إنه أعمى راءٍ وناصت ، إنْ صح التعبير؛ و كما أراده المؤلف :

" هل كنت أرسم أشكالا أتخيلها ؟ ربما . يعني شنو ؟ هذا يعني أنّ مخيلتي تشتغل اولا ، ثم تتحرك العصا بيدي دون إرادتي بل تسيرها مخيلتي ، المهم الان انا افكر أن مخيلتي تسيرها العصا ..؟" 

اذن ، يُعد هذا مقطعا جماليا رسمه لنا الأعمى . كي نصدقه أنه راءٍ ، وليس اعمى حسب .. بل ، إنَّ ما يطرحه من كلام يقترب الى مصاف الفلسفة ، حين يبلغ الحوار بين الأعمى الرائي ومجموعته مثل : إنْ كنت لا ترى الشيء وتحكي عنه فإنك بذلك تتحدث وتحكي عن لا شيء .. ص 10 .

ليس هذا حسب ، بل ، يَعدُ أن الاشياء التي لم يرها هي غير مؤكدة كما يقول لنا هنا : كل الاحداث التي مرت بي خلال حياتي اعتبر وجودها غير مؤكد مئة بالمئة التي لم ارها بعيني .. اسمع عنها فقط : فلا شيء وجوده مؤكد في نظر أعمى .. وهذا كلام يقترب تماما من مفهوم فلسفي يقوله لنا الأعمى الرائي .." 

وتتناغم ايقاعات اللهجة الشعبية مع ايقاعات اللغة الفصحى لتضفي عليها جمالية نادرة لمن يتفهمها . ولا اكتمكم أنني أنجزت قراءتها بفترة قياسية جدا وحين رايت نفسي قادرا على التفاعل معها انجزت هذا المقال ، وقد تجدون أو تلاحظون كيف أنني تفاعلت مع هذا المنجز الروائي لسارد نذر نفسه لمثل هذا العمل مما توجه بستة عشر رواية وهذا جهد كبير يحسب لطه حامد شبيب ، ولا أظنني أنني تفاعلت عاطفيا مع هذا السرد ، إنما رأيتني منحازاً اليه لجمالية لغته وسرده العذب وبساطة شخصياته وبخاصة شخصية العمى النادرة التي تتمتع عقليته بالمعية نراها على مدى سرده بوصفه الشخصية الرئيسة في هذا الجهد الكبير ..

 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top