ضيف يزن – إسطنبول
رحلة الزمان والمكان معا لها مكنونتها وطرق طرحها المختلفة، لكن أن تختصر تاريخ حقبةٍ زمنية مهمة من تاريخ عراقنا الحديث
وتخرجها على شكل عمل روائي هذا أمر فريد بل شحيح الحدوث، فعناصر الرواية هنا تختلط باليوميات لتخرج لنا مادة دسمة مليئة بالأحداث التي جعلت من كاتب رواية "بائع الأمل" ناهض الرمضاني شاهداً على حقبٍ مهمة من تاريخنا الحديث يحكي لنا تفصيلات قد تكون يومية من حياة العراقيين، عن الرواية وتفاصيل أخرى كان لنا هذا الحوار مع الروائي ناهض الرمضاني:
نبدأ من الخاتمة ، لم هذه الخاتمة؟ ولِمَ لم تكن مقدمة؟
- هناك مفارقة كبيرة في هذا الكتاب الذي استغرق تأليفه 25 عاماً. وهي أن جملة البداية وجملة النهاية فيه كتبتا والعراق يخوض حالة حرب. كتبت الجمل الأولى وأنا في منطقة حفر الباطن أثناء الاحتلال العراقي لدولة الكويت وقبل أن توجه القوات الأمريكية نيرانها إلينا بأيام قليلة.
بينما أكملت الكلمات الأخيرة من الكتاب ومدينة الموصل قد سقطت بيد حفنة من أشخاص مجهولين تسللوا ذات ليلة واحتلوا مدينة سكانها أكثر من مليوني إنسان وسط دهشة الجميع وذهولهم. إنه كتاب كُتب في الفترة الزمانية بين هجومين. وتخلل ذلك الفاصل الزمني حصار قاس قتل نصف مليون إنسان على الأقل. واحتلال أمريكي ومن ثم حرب أهلية.
لماذا "بائع الأمل" أسم للرواية كما تحب أن يدعوها الناس؟
- أحيانا لا أكون موفقاً في اختيار اسماء لأعمالي؛ وأحياناً يستغرق اختيار الاسم وقتا أطول من كتابة النص ولا سيما لو كان نصاً قصيراً. وقد غيرت اسم هذا الكتاب أكثر من مرة أثناء الفترة الطويلة التي استغرقتها عملية الكتابة ولكنني اخترت في وقت ما اسم بائع الامل. واجده الاسم المناسب لاسيما وإن لكلمة الأمل مكانة خاصة في وجداني. وفي قاموسي اللغوي الكتابي واليومي.
فصول الرواية الثلاثة الجحيم، الأمل، الخروج هل جاءت مصادفة أم مقصودة؟
- لا مصادفة في الأمر. وأظن ان الاسماء تعبر تماماً عن المراحل الثلاثة التي يتحدث عنها الكتاب. ففصل الجحيم يصف المعركة التي دارت على أرض الكويت بين الجيش العراقي وبين قوات التحالف المتشكلة من 33 دولة. يصف هذه الحرب من وجهة نظر مقاتل بسيط وجد نفسه في الجحيم دون أن يعرف سبب ذلك ودون أن يكون لديه أي مبرر شخصي للقتال.
الأمل هو اسم الفصل الثاني. وهي مفارقة موجعة إذ أن هذا الفصل يتحدث عن أيام الحصار الاقتصادي القاسية التي مرّ بها المواطن العراقي ويصف الظروف الشاذة التي أحاطت بالبلد.
اما الفصل الثالث فهو الخروج. وهو يصف مرحلة عاشها مئات الآلاف من العراقيين في سفر هجرتهم الطويل القاسي الذي بدأ خلال ايام الحصار ولم يتوقف لحد الان رغم تغير الظروف مرارا وتكرارا.
حقبة البعث والحكم الدكتاتوري هل بالفعل كانت حقبة جحيمية؟
- كان نمط حكم الحزب الواحد مستنسخاً من التجربة الستالينية وهو نمط ساد في البلدان التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية في الوطن العربي والعالم الثالث. وهذا النمط من الحكم يتطلب سيطرة أمنية صارمة وسلطة مطلقة على وسائل الإعلام وجميع المنصات الثقافية والتربوية.
نعم كانت فترة حكم البعث فترة قاسية تخللتها مغامرات عسكرية وسياسية مازلنا ندفع ثمنها حتى الان.
وليس من الغريب أن يحنّ بعض الشباب الى مظاهر ورموز تلك الفترة وذلك لأن نظام الحكم الذي اعقبها كان أسوأ منها بكثير. وقد تحوّل العراق من دولة تحكمه سلطة مركزية قوية الى دولة مفككة تحكمها جماعات متفرقة ولكل منها دكتاتورها الصغير.
ألم تحسب حساب أن تصل سطورك إلى يد السطلة في العهد السابق، لتكون أسير قضبان البعث؟
- كان هذا الهاجس يشكل رعبا حقيقيا لأي كاتب لا يسير في ركاب سلطة البعث ولم تكن لدي القدرة ولا الشجاعة لمواجهة نظام قوي دكتاتوري لذا فقد كنت أحرص على الاستمرار بالكتابة لكنني لم أقم بنشر أي من أعمالي باستثناء قصتين أو ثلاث. وكانت كتاباتي تتكدس في الأدراج دون أن أفكر بنشرها ودون أن أتوقف عن الكتابة إذ أنني كنت واثقاً من استحالة استمرار النظام. وكنت انتظر يوماً تشرق شمسه على العراق فترى أوراقي النور.
وقد جاء هذا اليوم كما توقعت. لكنه كان فجراً ملطخاً بالكثير من دماء الأبرياء التي نزفت ومازالت تنزف لحد الآن لأسباب كثيرة متنوعة.
من يقرأ روايتك يخرج بأنها مذكرات أو يوميات كتبت بفترات متباينة، ما هو السبب؟
- هي ليست مذكرات. بل هي أقرب لليوميات. كنت أدون شهادتي عن ذلك العصر يوماً بيوم. وكنت اختصر واختار وأتجاهل. فالكتابة الواقعية لا تعني بالضرورة الكتابة عن كل شيء. أردت أن أكتب نصاً أدبياً ووثيقة تاريخية في آن واحد. ولكل من هذين الجنسين شروطه. وأنا جربت التوفيق بينهما. كنت أريد أن أكون دقيقاً على ألا أكون مملاً.
أنا من الكتاب الذين يفكرون طويلا بالقارئ. وممن يهتمون بإنجاز كتابات يمكنها أن تصل إلى أعرض شريحة من القراء. واعتقد ألا قيمة لرسالة لا يفهمها الشخص الذي أرسلت إليه.
لماذا أثرت أن تذكر تفاصيل حياتية من يومياتك مستخدماً اسمك الصريح ولم تجعل شخصاً ثانياً تصنعه من بُنات أفكارك بطلاً للرواية؟
- هذا هو الكتاب الوحيد الذي ينقل أحداثاً واقعية. وكان الهدف منه التوثيق فضلاً عن قيمته كنص أدبي. ووجدت أن من الأفضل والأقرب إلى المصداقية أن أكتب باسمي المباشر وأنا أنقل تجربتي المباشرة في الجحيم والأمل والخروج. في الحرب والحصار والهجرة. وهو ليس مصيراً فردياً فقد قاسمني هذه المعاناة عدد كبير جداً من أبناء وبنات جيلي
هنالك فترة زمنية مقطوعة لم تذكر في الرواية لماذا هذا الانقطاع؟
- هناك أكثر من انقطاع عن الكتابة، ولأكثر من سبب، أحياناً كان الانقطاع بسبب الانشغال بهموم الحياة اليومية؛ وأحياناً لندرة الأحداث التي تستحق التوثيق؛ وفي أحيان أخرى انقطعت نتيجة شعوري باستحالة نشر الكتاب مما ولد لدي عزوفاً عن الكتابة.
لكنني لجأت إلى أسلوب غطى أهم فترات هذا الانقطاع. ولعلك لمست ذلك أثناء قراءتك للكتاب.
مسرحية "أمادو" التي ذكرت داخل الرواية، ماذا تعني لناهض الرمضاني؟
- هي واحدة من مسرحياتي وقد أكملت كتابة 13 مسرحية لحد الآن. لكن أمادو نالت الشهرة الأكبر لدى القراء لنشرها في مجلة الأقلام في عدد خاص عن المسرح العراقي الحديث عام 2006. وكذلك كانت المسرحية الاكثر تقديما على خشبات المسرح اذ تم عرضها برؤى مختلفة في السعودية ثم المغرب والعراق وسوريا. كما وقدمها أحد الاصدقاء باللغة الانكليزية في الهند. ثم تمت ترجمتها الى الألمانية وقدمت في عروض بتلك اللغة في لكسمبورغ.
لطالما قلت أن للنصوص حظوظاً كحظوظ البشر. وقد كانت أمادو الأكثر حظاً بين مسرحياتي. وآمل ألا يستمر ذلك وأن تنال مسرحيات أخرى كتبتها شهرة تساوي شهرة هذه المسرحية.
نص الفيلم القصير الصامت هل يعني لك الكثير؟ حدّثنا عن مكنونة هذا العمل؟ ومن أين استوحيت فكرة وأبطال الفيلم؟ وهل تم إنتاج الفيلم؟
- الكتابة للسينما الصامتة أمر صعب للغاية. ولدي أكثر من نص لأفلام قصيرة بعضها صامت وبعضها ناطق ولكني أظنك تتكلم عن سيناريو فيلم صورة رئاسية.
هذا السيناريو يعبر بإيجاز ودقة وبطريقة الكوميديا السوداء عن الوضع العراقي بل والوضع العربي المعاصر. واتمنى أن يجد طريقه للإنتاج والوصول الى المشاهدين وأظنه سيكون إضافة حقيقية الى السينما العراقية والعربية؛ وهو يصلح للعرض في أي مكان لأنه يستخدم عنصر الصورة كوسيلة وحيدة للتوصيل مستغنياً عن اللغة ومقترباً من الجوهر الأصيل لفن السينما.
لو قُدر لك نشر "بائع الأمل" من جديد بنسخة جديدة، ستنشرها نفسها أم سيكون فيها تغيير ملحوظ؟
- أظن أنني سأختصر قليلاً فيها؛ وسيتركز الاختصار في الفصل الثاني الذي تكلمت فيه عن الحصار وآثاره على المجتمع ككل؛ وسوف أخفف بعض العبارات القاسية التي انتقدت فيها النظام. وقد وقفت طويلاً أمام هذا الموضوع إذ تركزت كتاباتي على انتقاد النظام السابق بكل قسوة وسخرية، الآن بدأت أدرك أن لذلك النظام المستبد بعض الملامح الإيجابية التي افتقدناها.
هل المثقف الموصلي مغبون إعلامياً؟
- المثقف العربي مغبون عموماً على كل الأصعدة مع استثناءات قليلة، المثقف العراقي أكثر غبناً من كثير من المثقفين العرب، أما المثقف الموصلي فهو قابع تحت رماد كثيف من الإهمال والتجاهل وانعدام فرص الانتشار لأسباب كثيرة ومختلفة؛ ولا يقتصر ذلك على هذه الحقبة الزمنية، بل إن هذا الغبن والتجاهل موجود منذ عقود بعيدة.
اترك تعليقك