ياسين طه حافظ
- -2
التكافل غير المعلن بين المتواصل – الإعلامي المنتج – والمتلقي، كبيئة اجتماعية، هذا التكافل يستوجب التزامات من الطرف الأول إيفاء لثقة الطرف الثاني به.
معنى هذا أن يؤكد الإعلامي جدارته بالثقة به ويؤكد الطرف الثاني تفضيله واختياره، حتى يكون العمل مشتركاً، كما سنرى .
لكن كيف يؤكد الإعلامي المنتج جدارته واستحقاقه للثقة الممنوحة له ولتكون المشاركة مثمرة للطرفين؟ - هنا يجب الانتباه لعبارة مثمرة للطرفين لأنها الأساس الدائم لنجاح العمل واستمراره. معرفة احتياجات المتلقي وتدرجاتها في الأهمية هي الخطوة المؤسسة الأولى. وتلبية هذه الاحتياجات كلها، أو بعضها المهم في الأقل، هي الخطوة الثانية لتأمين استمرار ثقة البيئة الاجتماعية المتلقية به. خطوة ثالثة مهمة لدوام حيوية العمل، هي قدرة الإعلامي على تحفيز رغبات أخرى لدى المتلقي ومنحه مالم يكن ينتظره! في هذه الخطوة تجاوز للمطالب العامة أو الرئيسة إلى ما هو أبعد منها. غنى ثقافة وغنى كفاءة الإعلامي ووصوله عامراً بما هو أكثر من المتوقع، أو المطلوب، يعزز المزيد من الثقة ويمنح المؤسسة الإعلامية احتراماً مضافاً وأفضلية وتبدو بهذه الجدارة أكثر رسوخاً!
صحيح في العمل المؤسساتي يجد العامل المنفذ مخططاً مرسوماً وتوصيات. وهو منفّذ كفاءته على قدر دقة التنفيذ والانضباط "الوظيفي" و الأخلاقي لأداء ما أوكل إليه أداؤه. لكن هذا لا يمنع من أن يظل إعلامياً مبدعاً في الفسح الاختيارية المتاحة. أيضاً، في أن يمنح بعداً للمهمة الرسمية الملزمة. وهو هذا البعد الذي تمكنه منه ثقافته في بيئة التلقي والوعي الدقيق للمستجدات الآنية لا الزهو السريع بما يروق لنا.
بمثل ذك تحصل المؤسسة على انتباهات تطورية وعلى ذكاء إعلامي حي، مقلدو البرامج في مؤسسات بث أو نشر أخرى، لا أمل بأن يكونوا مجددين. المحاكاة دليل سذاجة وقصور. سذاجة، لأن لكل بيئة تلقٍ متطلباتها ولكل مؤسسة متطلباتها. التشابه لا معنى له. تكرار المألوف غير مرحب به، مملّ هو. ويزداد سوءاً، و ربما ابتذالاً إن كان شائعاً. هو هنا ليس له دور خاص في الفهم العام ولا في أسلوب الحياة ولا بالذائقة والأفكار التي نريد إحداث تنبيه أو تغيير فيها. وأعمال مثل هذه تسبب ركوداً وخواء لأي مؤسسة إعلامية تصدر منها على خلاف البرامج الجديدة المبتدعة. لقد جاء المحاكي للمتلقي بما يعرفه الأخير وكان هذا ينتظر منه جديداً! ثم افتقدنا روح المشاركة الحية مع جمهور المتلقي وافتقاد روح المشاركة يعني، أول ما يعنيه، الغربة عنهم مثلما يعني افتقاد القدرة على التواصل الحي المشوق وعلى استحضار فهم مشترك، وهو مطلب أساس. لا مزاح في الإعلام! وحذار أن نشعر بالسيادة. لا سيادة في الإعلام. الإعلام وعمله وروحه الايجابي، في المشاركة والحميمية المتبادلة. وهذه الحميمية، يسهم الاعلامي في صنعها وفي تطويرها. النظرة المتبادلة هي المطلوبة في أي تفاعل بشري. وهذا مما يدفع العلاقات الأخلاقية إلى التقارب وإلى تبادل الحس بالصواب وبالضروري. حينها نجد المسؤولية قد حضرت في العمل من دون أن نراها. أما النصائح الفجة والخطابات المباشرة بالـ يجب والـ على والـ ينبغي، فهي بعض من الشعور بالسيادة التي نهينا الإعلامي عنها. نريده إعلامياً حياً وحميماً ويتعامل باحترام مع بيئة المتلقي التي يبث أو ينشر لها. وعمله نتيجة وعي للضرورات ويتم بمنطق مقبول والمعية، لا نتيجة عواطف طافحة وحماسات آنية. ليكن الحساب دقيقاً للنتائج، فهذا الحساب هو حساب مدى النجاح أيضاً.
ثمة دائماً هدف هو قطب منظومة التواصل. وحتى إذا اشتركنا جميعاً في هذا الهدف كأن يكون المعرفة أو الخبر أو المتعة أو البروبوجندا، يظل ضرورياً أن نسأل أنفسنا : لماذا هذا الهدف؟ ولماذا يجب أن يكون هدفنا نحن؟ أهمية هذا التساؤل أنه مبعث مراجعة لطبيعة العمل ولغاياته. وفي المراجعة تطوير وتلاف لما فقد ضرورته، وهل يستمر الهدف كما هو ؟ ايجب تطويره؟ أم تغييره؟ الجواب يأتي من خلال التفكير العملي. إن تفكيراً اوعملاً إعلامياً يوجب أن نشتغل في الثقافة الاجتماعية والتقنية معا لتكامل العمل. وأن تكون لنا ساعات دراستنا "العلمية". وفي حال انجاز بحث في هذه المسألة وفي تلك، فلنا من بعد مجموعة بحوث هي التي تعتمد لتطوير العمل موسماً بعد موسم ودورة بعد أخرى. غرفة المتابعة والتطوير هي مكتب مهم بين الاقسام . من هذه تجيء الملاحظات على السائد وعلى الأفكار الجديدة الجادة والضرورية. أما المظهريات الصبيانية كأن يقف العاملون وقفات مسرحية هزيلة، يستعرضون أنفسهم لمشاهديهم باربطة عنق ومناديل جيب أو باكتمال الزينة، فهذه قد لا تكون ضارة ولكنها بعيدة عن أي حشمة علمية أو اهتمام جاد بجوهر العمل. نعم قد تكون فيها خفة دم للتطرية ولكن فيها فجاجة أيضاً. وبخاصة تكرارها. والأسوأ أن تكون محاكاة لقناة تخلت عنها.. لا بأس مرة واحدة أو لمناسبة سارة. لكن التكرار غير محبذ ولا يدل على نضج في كل حال!
ما أردت التوقف عند أمور عابرة كهذه إلا لأشدّد التأكيد على جدية العمل الاعلامي كعمل تواصلي معرفي فني وهدف اردناه مشتركاً. وأبداً ليست هي مهمة سهلة أن تنتسب المؤسسة الإعلامية، فضائية أو صحيفة، للبيئة الاجتماعية التي تخاطبها وأن ينتمي مجتمع التلقي في هذه البيئة للمؤسسة. هذه الحميمية المتبادلة، والتي دعوناها "المشاركة"، هي ميدان نجاح العمل ولاتتحقق إلا بالمعرفة و الذكاء.
قد يأتي ذكر البرامج أو الصفحات الترفيهية، أو قل أبواب التسلية الفضائية أو المقروءة. يكفي أن اشير إلى الكاريكتير الذي تمتاز به كل صحيفة والمشاهد التمثيلية الساخرة التي تتخلل البرامج. هذه كلها عادة لها هويات الخطاب العام للمؤسسة. لكل فضائية مذاقها الخاص وهويتها الاخبارية والثقافية والترفيهية. المواد المختلفة واحدة الهدف ولها هوية خطاب واحدة أيضاً. شرط الا تتقاطع. يمكن أن تكون الترفيهيات نقاط استراحة وبعث حوية وتضيف لطفاً من الذكاء والرهافة يتخللان برامج العمل بثاً أو نشراً.
ما يخشى بعد كل الذي ذكرناه هو الجفاف الذي يصحب عادة الأعمال الجادة حين تخلو من الانتباهات الذكية ويفتقد المنفد الرهافة. تُبعِدُ الكثيرَ مما نخشاه الاساليب الجديدة ولطف الفن والروح الاجتماعي والمودة، لا التعالي في التنفيذ. هذه الخصال تجعل ما يقدم مفيداً، مريحاً ومرحباً به.
لم أتحدث عن معالجات مثالية ولا اقترحت ما لا يمكن، أبداً. كنت في صميم العمل الإعلامي. أما أننا نريد أداء اعلامياً، فنيا وعلميا، مما ورثناه أو مما نحاكيه، فهذا ينفي التطور أولاً، وثانياً ليس فيه وعي للزمن وهو يتجدد. ادراك المستجدات في البيئة المتلقية ليس بطراً، هو اساس النجاح وقوة استمراره!
ربما يقول إعلامي، من باب دفع اللوم، أنهم مقننون في الصرف. وكأن التقنين في الصرف سُبّة أو خطأ. على المعترض أن يدرك أن افلاس المؤسسة التي ينتمي لها، أو خسارتها، أول ما يعنيه الاستغناء عنه! أو عن مُساعِدِه! فعليه وعلى سواه ادراك الحاجة القصوى للإعلان وللبرامج التي تُسوَّق. فكثير من الصحف اغلقت بسبب افتقاد الاعلان وفضائيات توقفت لقلة التمويل. وحتى إذا تيسّر ممول رسمي أو غير رسمي. انقطاع التمويل المفاجئ، لأي سبب، ولا إعلان، هذا القطع، ولو لبضعة أسابيع، يعني توقف العمل. ليكن التفكير بمنطق العصر الاقتصادي. المثالية للتبجح وللحديث مع فناجين القهوة، هي أبداً ليست للعمل الجاد واستمراره!
اترك تعليقك