فن الشارع.. الفن حينما يصبح فعلاً اعتراضياً

فن الشارع.. الفن حينما يصبح فعلاً اعتراضياً

علي النجار

في عام (1959) ساهمت في رسم جدار السياج الخارجي لمعهد الفنون في بغداد، وكانت تجربتي الأولى.

في نفس هذا العام والذي قبله انتشرت الرسوم على الجدران في بغداد على أثر تغيير نظام الحكم من الملكي المحافظ الى الجمهوري المنفتح على الشارع. كانت الرسوم خليطاً من رسوم لشخصيات الثورة الجديدة وحوادث وممارسات ومهن شعبية، وأحياناً كتابة شعار هنا وهناك مصحوباً برسم استنساخي بسيط.

قبل هذه الفترة، كانت جدران المدن أيضا مجالاً لتدوين الشعارات السياسية المعارضة للاستعمار، أو المناهضة لتصرف الحكومة. كما في العديد من مدن الدول العربية الأخرى. وكانت طريقة الاستنسل، سواء كتابة أو بعض الشعارات المرسومة هي الأكثر شيوعاً. حيث يتم تصميمها بواسطة التفريغ على الورق أو الكارتون، ورشها بالأصباغ على الحيطان. غالبا بغفلة عن عين السلطة، كوسيلة احتجاجية سياسية. حدث هذا في معظم مدن العراق، والدول العربية الخاضعة وقتها للاستعمار، أو بعد ذلك ضد تصرف الحكومات، أو للدعاية بمختلف أشكالها. 

التجربة الثانية لي حينما زرت وارشو عاصمة بولندا أواسط السبعينيات من القرن الماضي وقع بصري على سلسلة رسوم تغطي الجدران الخارجية لعدة عمارات سكنية متجاورة بزاوية ما، لتهيمن على المكان مجالاً بصرياً إدهاشيا، ليقضي على رتابة نسقها المعماري المتقشف. رسوم تقع في منطقة وسط ما بين البوستر وفن الرسم منفذة بألوان صريحة وباحترافية فنية عالية، يبدو أنها لفنانين معروفين. مثلها مثل الرسوم التي تعلن عن مشاغل الفنانين المنفذة بأساليبهم المعروفة على جدران مراسمهم الخارجية. لقد كانت رسوم حضرية، ليس كما رسوم جدار برلين السياسية اللاحقة. والتي تحول بعضها الى أثر سياحي.

التجربة الثانية: (مثال لوس انجلس)

إن كان ما أوردته من أمثلة لا تتعارض في معظمها والسياسة المحلية للدولة. لكن لو تتبعنا جذور نشأة فن الشارع، لرجعنا الى زمن أبعد من هذا بكثير. ولنا مثل لما حصل في بعض مدن الولايات المتحدة النامية. ففي زمن الانهيار الاقتصادي الكبير نهاية عشرينيات القرن الماضي، في مدن مثل لوس أنجلس وشيكاغو حيث تتشكل أحياء المدينة الأكثر فقراً من نازحي الدول المجاورة وبشكل خاص من المكسيكيين، ولتوفر فضاءات حاضنة لبعض العصابات الإجرامية. وكأن أمراً محتوماً أن تفرز من ضمن ما أفرزته فن أو ثقافة رسوم الجرافيك الخاصة بها، التي تتلخص وقتها في رسم شعاراتها وبياناتها من قبل رسامي الشارع، والتي كان بعضها على شكل(لوحات تذكارية أو لافتات على الجدران وعلى المكاتب وأبنية المدارس ونقوش إسمنتية على أرصفة الأحياء، كرموز للتمرد مع ما صاحبها من رد فعل للشعور المشوه للوطنية). لقد كانت هذه الكتابات انعكاساً لهوية جماعية بدت مسلوقة على عجل. كما نشأة أحيائها الفقيرة. 

ليس هناك بحث جمالي موثق لرسوم عصابات الشوارع هذه من قبل الأوساط الأكاديمية. مما أدى الى ضياع تأثيرها مبكراً. على الرغم من أنه جرت متابعة بحدود ما لأصول الكتابات منذ ثلاثينيات القرن العشرين. على عكس ما دون من تأثير يافطات إعلانات النيون التجارية(مثلا) على تأسيس فن البوب الأمريكي. والذي كان بعض ممارسيه من رموزه المعروفة. وصولاً الى عام(2011) حيث أطلق على هذا النوع من الفن أو الرسوم والكتابات بفن الشارع أو الجرافيتي، ليسجل حضوراً في المتاحف والمعارض الشهيرة في جميع أنحاء العالم. وليصنف كفن من فنون ما بعد الحداثة الذي له علاقة بالعمارة والتخطيط الحضري. ولنا مثل في ذلك عن بعض من الفنانين الذين استطاعوا الوصول بأعمالهم الى قاعات الفن المعاصر، في فترة السبعينيات والثمانينيات. منهم(جان ميشيل باتست، كيث هارينج، فاب فايف بليك لو رات). بعضهم بمساعدة فنانين معروفين، كما قصة باتست ونجم البوب وارهول.

رجوعا الى خمسينيات مدينة لوس انجلس لنتابع تطور رسوم الشارع. حيث يصنع الرسام المعروف (روبرتو شافيز) في عام(1950) مع آخرين ملامح هذا الفن بمزيج من الأساليب التصويرية السريالية والتعبيرية(لشخوص عصابات بأقدام مدببة الى الخارج مثل البطريق، وشعر مسرح للخلف، ويدين في الجيب وظهر برأس مايل). في مسعى منه لتفكيك اللغة العامية ودمجها في رسومه. مما يؤكد لنا بأن هذا الفن ما يزال ينتعش في بيئته المدنية الخلفية المعروفة، التي بدت فيها كمظهر من ملامح اندماج المكسيكيين في هذه الفترة وبقية الجاليات المهمشة الأخرى في المجتمع. 

في أواخر الستينيات حدث التحوّل بنقل أنماط الرسوم على الجدران الى وشم على أجساد المساجين. كما محاولات بعض الفنانين مثل( ويلي هيرون، تشاز بوجوريك، لوسيلا فيلازينور وغيرهم)، ليتم دمج حروف الجدران وصورها في أعمالهم الفنية، ولتطبع بعضها على شكل بطاقات العمل والمعارض الدورية للجدران والتقليدية. لتتشكل أو تدمج اللوحة الجدارية في مشاريع الإسكان العام، كشكل من اشكال التحول الاجتماعي). 

في الثمانينيات ونتيجة لزيادة الوعي الاجتماعي، تم في هذه المدينة إبرام اتفاقية سلام مع فناني الشارع، بعد النجاح والشهرة التي حصلت عليها الجداريات في جميع أنحائها. ليتم الإشارة لمدينة لوس انجلس كعاصمة جدارية للعالم. أي بعد حوالي ثمانين عاماً، استطاعت ثقافة عصابات الشوارع المكسيكية الأمريكية من فرض تأثيرها على الفن المعاصر. ولتتحول غالباً رسومهم وماركاتهم الى سلعة ثقافية متداولة في كل مكان.

مدينة نيويورك

بالرغم من أن فن الشارع نشأ منذ الستينيات في نيويورك ليمثل ظاهرة الهروب من البيئة الرمادية المتكررة، وليحمل رسالة اجتماعية كونه أكثر أشكال الفن انتقاداً في العالم في مناطقه الحضرية، ليتكرر لاحقا بأنماطه المتعددة الأشكال من الكتابات الاحتجاجية والهزلية والجنسية الى الرسوم خلال السبعينيات والثمانينيات، بعد أن أصبح ظاهرة عالمية. لكن نيويورك ليست كما لوس انجلس، ولا يعني أن تتكرر حالتها كما في مدن أمريكية أخرى. فحملة تدمير رسوم الشارع تجري غالباً عبر تخطيط حكومي ومن خلال رصد مبالغ كبيرة. بشكل خاص في المدن الكبيرة، مثل نيويورك. حيث تم إنفاق مبلغ ثلاثمائة مليون دولار في عام(1986) وحده. وأحد أسباب ذلك، هو عدم السماح لشيوع فن ثوري شعبي يشارك فيه الناس. مع ذلك فإن أثرها غالباً ما يبقى فاعلاً بعد زوالها.

وقفة

أنتجت الكثير من الأفلام الوثائقية عن رسامي الشوارع، غالباً كخارجين على القانون حسب تقييم الحكومات. بالوقت الذي كان هدف الفنانين التعبير عن ذاتهم المتمردة على الكثير من قضايا وسطهم المحلي والعالمي، بما متاح لهم من مجال، بعيدا عن أعين السلطة. من ناحية قانونية وخوفاً من العقوبات قرر العديد من أشهر فناني الشارع في وقتنا الحاضر العمل علنا جهد امكانهم. مقابل ذلك تم استثمارهم من قبل أصحاب العقارات من أجل رفع أسعار عقاراتهم. مستغلين شهرة الفنان وعمله. ولندخل مجال العلن.

الدول الاسكندنافية الأوربية الشمالية مثلاً

بمحاذات تجربة مدينة بريستول البريطانية. حاولت الدول الاسكندنافية إيجاد منفذ شرعي لفناني الشارع، ولو بحدود ضيقة تخدم أغراض حكوماتها المحلية، وبيئتها الحضرية. فن المعلوم أن مدينة بريستول البريطانية ومنذ ثلاثين عاماً تشكلت في شوارعها حوالي خمسون لوحة فنية وبضمنها رسوم الفنان المعروف (بانكسي). والتي أصبحت هذه المدينة تنظم مهرجانات خاصة للاطلاع على أعمال هذا الفنان بالذات وغيره ولتحصل على شهرتها السياحية. 

بالنسبة للوضع القانوني تعارض حكومات الشمال فن الشارع. كما الحكومة المحلية لمدينة ستوكهولم عاصمة السويد التي تعارض هي الأخرى جميع أنواع الفن غير القانوني. الا أن هناك حوالي(90) محطة مترو تحتوي على أمثلة رائعة من فن الشارع، كذلك العديد من الرسوم في مناطق الأطراف المحصورة في أحياز معينة. مثل المنطقة الصناعية(سنوسيتر ) وبحيرة(روكسفيد الترفيهية) التي أصبحت منذ عام(2014) مركزا لفن الجدران وفن الشارع. هذا لا يعني أن هناك حرية ممنوحة للفنان لينفذ عمله حسب رغبته بالمكان الذي يختاره، إذ لا يتم رسم الجدران إلا بإذن من المالك. بل سرعان ما يتم إزالتها. وهذا مثل من أمثلة توظيف الرسوم في أماكن معينة، كما حدث في مدينتي مالمو(جنوب السويد) من توظيف هذه الرسومات من قبل مجموعات شبابية على الجدران الخلفية لبعض الأبنية المقابلة للحدائق العامة. أو على جدران اصطناعية في المناسبات الاحتفالية. رغم بعض الخروقات في الأنفاق الصغيرة والأمكنة المنزوية التي لا تلفت النظر. واعتقد أن الدانمرك والنرويج لا يختلفان عن ذلك إلا بحدود المساحة الممنوحة لرسامي فن الشارع والمناسبات والمساحات المخصصة علانية كما في مملكة السويد.

ختاماً

أخيراً فان التطبيقات الحديثة لفن الشارع، حاله حال غالبة الفنون المعاصرة، تماشت والتطور التكنولوجي الرقمي الذي يمكن استخدامه من قبل الفنانين كوسيط خاص لتنفيذ أعمالهم، مع ما صاحب من تطور الانترنيت. فالمجال الافتراضي أصبح واسعاً للاشتغال على أنماط مختلفة ذات جمالية وجاذبية فريدة، ومن قبل وكالات متعددة لتصاميم الويب وتطويرها ومشاركتها. إضافة لولوج عالم الموضة والتصاميم الطباعية وحتى التسويق. لقد اكتملت الدائرة، وعاد الفن المشرد المطارد الى حضيرة المال والعمل ومضارباته. رغم بقاء لا شرعية قسم كبير منه خاضعاً للرقابة والمساءلة، ورغم علنية أشهر فنانيه المعاصرين في السوق الفني، وبعض الأحيان فضائحه، كما حدث لعمل يانكسي الذي هدم نفسه. الا أن زوال الكثير من أعمالهم حادث في أي وقت. وشهرة بعضهم باتت مثلاً موارباً للمضاربة والتخفي.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top