ثائر صالح
عاشت جزر اليابان عزلة عن العالم لقرون وظلت بمنأى عن اكتساح الجيوش الأجنبية. ونجت من محاولات زعيم المغول قوبلاي
خان احتلالها بعد أن دمرت اسطوله أعاصير التايفون لمرتين متتاليتين. وتعود كلمة كاميكازه اليابانية التي ارتبطت بهجوم الطائرات اليابانية الانتحاري على السفن الأمريكية ابان الحرب الثانية الى تلك الفترة، فمعناها "الريح الإلهية". وصلت العزلة القمة خلال فترة إيدو (1603 – 1868) التي انتهت أخيراً باستعادة الامبراطور السلطة من امراء الحرب (شوكـون). لكن ذلك لم يمنع من التفاعل الحضاري مع شرق آسيا، على الخصوص جارتها الكبيرة الصين.
تأثرت اليابان في البداية بالبرتغاليين في مطلع القرن السابع عشر، ثم بالتجار الهولنديين في القرن الثامن عشر وبدأت التقنية والتأثيرات الأوروبية والغربية دخول اليابان. حتى تلك الفترة كانت الفنون الوطنية قد بلغت مرحلة متطورة، فجذور الموسيقى اليابانية الكلاسيكية تعود الى قرون مضت بتأثيرات صينية وصلت عبر شبه جزيرة كوريا، حلقة الوصل بين البلدين. وتطورت أدوات موسيقية عديدة أبرزها أنواع الأدوات الهوائية المصنوعة من سيقان البامبو وأنواع من العود بثلاث أوتار وأكثر. لكن أجمل الأدوات صوتاً هي الكوتو وهي أشبه بالقانون قدمت من الصين مبكراً في القرن السابع او الثامن. استمعت اليها للمرة الأولى في قاعة الشعب في بغداد عام 1977 على ما أذكر. بلغت الأداة قمة تطورها تأليفاً وتقنية مع ياتسوهاشي كنـكـيو (1614 – 1685) وتعتبر أعماله أهم كلاسيكيات هذه الأداة.
لم تتوقف اليابان عند الثقافة الوطنية بل أصبحت اليوم واحدة من أهم الدول التي "تستهلك" الثقافة والفنون العالمية، بل أصبحت تنتجها هي، أسوة بالعلوم والتكنولوجيا، لدرجة أذهلت العالم. ففي مجال الموسيقى يندر أن نجد فرقة عالمية بدون عازفين يابانيين، ولديهم قادة أوركسترا كبار مثل سَيجي اوزاوا (تولد 1935) الذي عيّنه ليونارد برنستين (1918 – 1990) مساعداً له على فرقة نيويورك الفيلهارمونية سنة 1961 وهو في السادسة والعشرين فحسب.
يقود ماساكي سوزوكي (1954) فرقة جماعة باخ اليابانية (Bach Collegium Japan) وقد نال شهرة عالمية بتقديمه موسيقى باخ وعصر الباروك باحترافية عالية مذهلة. الانضباط الراقي والاتقان المعتاد في كل عمل يقوم به اليابانيون أذهلني مرة عندما وجدت على اليوتيوب أفلاماً تصور شباباً يابانيين في طوكيو وهم يقضون وقتهم بواحد من أعقد أنواع الرقص الشعبي وهو المجري. ولولا سحناتهم المتميزة وتفاصيل التصوير والمكان لحسبت أنهم فرقة رقص شعبية مجرية من الدرجة الأولى.
كل هذا لا يتوصل اليه اليابانيون دون اهتمام حقيقي بالثقافة وبالتمويل السخي لتوفير متطلبات الابداع. أنظروا مثلاً الى ناطحة سحاب "مدينة الأوبرا" في منطقة شينجوكو وهي سابع أعلى بناية في طوكيو، بنيت في 1996 بارتفاع 234 م، وفيها 54 طابق يضم قاعات للموسيقى ومعرضا للفنون ومتحفاً ومكاتب مؤسسات وصناديق فنية وموسيقية والعديد من المطاعم ومحلات التسوق في طوابقها الدنيا.
لا داعي للتعريف بشركة ياماها وأدواتها الموسيقية ومؤسستها، فحصتها 25 % من مبيعات الأدوات الموسيقية العالمية. متجر ياماها الضخم في منطقة كـنزا التجارية في طوكيو الذي تم تجديده في 2010 بكلفة 100 مليون دولار هو من المعالم الهامة. في البناية صالة للموسيقى تتسع لمئة مقعد وتكتظ رفوف المبيعات في طوابقها بكل ما يتعلق بالموسيقى من تسجيلات ومدونات وأدوات موسيقية ومستلزمات.
اترك تعليقك