التراث بعيون معاصرة

التراث بعيون معاصرة

قراءة في كتاب فتنة السرد .. مقاربات نقدية في السرد الحكائي العربي

د. إشراق سامي

للسرد العربي القديم فتنة وسحر خاص يغرق فيه القارئ حين يتماهى مع أزمان لا يعلم عنها الكثير،

يبدأ السحر من هنا ولا ينتهي عند اللغة الجزلة والإيجاز المفيد أو الطرافة والذكاء والكثير من تفاصيل الإبداع العربي الأصيل. وهذه التفاصيل تختلف بتنوع الجنس الأدبي (للشعر قواعده وأصوله وللنثر طرائقه وفنونه)، كما تتمايز عن الأنواع الأدبية التي تنضوي تحت جنس واحد، كالسرد الذي يتسع للتعبير عن أنواع عديدة مثل: الأخبار والمقامات والنوادر وحكايات الحمقى وقصص البخلاء والسير؛ ولعلها تشترك جميعاً بميزة واضحة يمكن لأي متابع للأدب العربي القديم أن يسجلها، وأعني بها التكثيف العالي واختصار الكثير من الترهل في الزمان والمكان أو وصف الشخصيات.

هذا التكثيف الشديد هو الذي بنيت حوله فكرة كتاب " فتنة السرد، مقاربات نقدية في السرد الحكائي العربي" للدكتور صالح هويدي، المنشور عام 2016 ضمن منشورات معهد الشارقة للتراث، إذ جعله الدكتور هويدي قاعدة نقدية انطلق منها إلى تحديد أهم المشتركات بين النصوص السردية المختارة، وبين قواعد فن القص القصير. ففي هذا الكتاب إبحار ماتع وشائق عبر نصوص سردية مختارة بعناية صانع متمكن من صنعته، يعلم مواطن الجمال ويفهم مكامن الدهشة. والخبر، كما يشير د. صالح في كتابه يمثل" إرهاصات ونواة لما يعرف اليوم بفن القصة القصيرة جداً أو السرد الوامض". يشير الكاتب سريعاً الى أهم العوامل التي جعلت السرد العربي يتأخر من حيث الاهتمام والمتابعة النقدية، منها انشغالنا بالشعر العربي، ولأسباب أخرى فصلها دكتور هويدي في التمهيد الذي كان إضاءة فكرية موجهة للقارئ قبل أن يتعرف الى السرود المختارة التي أشار إليها المؤلف بأنها حكايات تنتمي لصنف الأخبار. وقد قسمها الكتاب الى ثلاثة أشكال رئيسة، هي: 

1 - حكايات السرد الفانتازي 2 - حكايات السرد العبثي 3 - حكايات السرد التعبيري.

مؤكِداً عبر هذا التقسيم على الفكرة النقدية الأساسية لهذا الكتاب وهي أن النص هو صاحب القرار الفصل فيما يختار من منهج، وما يركن اليه من أدوات نقدية فاحصة، لذا اقتضت مجموعة النصوص السردية في هذا الكتاب أن تصنف عبر الفصول الثلاثة، وقد برر الكاتب مثل هذا التصنيف بحاجة الكتابة الأكاديمية اليها؛ فهي تحتم اعتماد منهج يقوم على التقسيم والتصنيف والتعداد، لكنه يشير إلى أن: " أسوار المنهج لن تحول دون رؤية مافي النصوص من تجاوز في التعبير عن حمولتها".

يبدو أن فرضية هذا الكتاب قائمة على فكرة تتصل كما أسلفنا بتخصص الدكتور صالح هويدي في القصة القصيرة أو القصيرة جداً، إذ ثمة فكرة تتكرر فيه، ومع اختلاف أنواع الأخبار المنقولة في أقسامه التي خضعت للتفكير المنهجي في الكتابة، هذه الفكرة مفادها أن الخبر هو قصة قصيرة يشترك معها بعدة تقنيات، وسنهتم على سبيل المثال بتحليل الخبر الأول وهو نادرة منقولة من كتاب (نزهة النفوس ومضحك العبوس )لابن سودون في الصفحة 40 من الكتاب، وبعد أن ينتهي الخبر يحلل الكتاب عبر أدوات السرد الحديث فيقول " واضح أن النص الذي نتناوله يقوم على عدد من الآليات التي تجعله أقرب الى النمط السردي القصير المعروف في أدبنا العربي الحديث بالقصة القصيرة جداً، سواء في فضائه الورقي المحدود أو في وسائل التكثيف والاختزال والحذف، أو في اتكائه على بنية المفارقة التي انتهى إليها النص (النادرة)، ليكون بؤرة دلالية وطاقة مشعة بمحمولاتها من خلال تقنيات الحذف وتكثيف الملفوظ السردي والبعد عن مظاهر الشرح التي تشكل عبئاً على النسيج الفني للحكاية " ص 45.

تتوقف الدراسة قليلاً عند التجريب والغرائبية ثم بنية المفارقة موضحة طريقة اشتغالها داخل النص، ويستمر منهج الكاتب بالطريقة ذاتها مع جميع الاخبار المنتقاة للقسم الاول حتى ينتهي مع الخبر رقم 24، معتمداً على الأسلوب نفسه في التحليل والربط . وأما الخبر الأخير في القسم الأول من الكتاب فيقول:

" شكا رجل الى طبيب وجع بطنه، فقال وما الذي أكلت؟ قال أكلت رغيفا محترقا؛ فدعا الطبيب بذرور ليكحله، فقال الرجل : انما اشتكي وجع بطني لاعيني!قال : قد عرفت، ولكن لتبصر المحترق فلا تأكله .."

يعلق الدكتور هويدي عليه بمنهجه نفسه القائم على تحليل وقراءة كل خبر على حده ثم التركيز على نقاط السرد الرئيسة التي منحته ادبيته وحررته من التاريخ وينهي تحليله بقوله: 

"إن ثمة ضرباً من مفارقة الاستدلال هي التي يشيعها السرد هنا، حين يتم الربط بين أكل الشخصية للخبز المحترق وفقدان البصر، وهي مفارقة تهدف إلى السخرية والخروج إلى التقريع مشيعة جواً من الفانتازيا العابثة "143.

يستمر الكتاب في أقسامه الأخرى بالمقاربة النقدية القائمة على استعمال أدوات منهجية حديثة في النقد القصصي ويطبق آلياتها على نص سردي قديم يتشابك فيه الخبري بالتاريخي بالخيالي، مما يمنح الكتاب قدرة على الإمتاع والإدهاش في الآن ذاته ولاسيما مع الخيارات الموفقة للنصوص السردية القديمة وجلها متميز بالمفارقة والإدهاش والمتعة، وأيضا من الملاحظ عليها أنها ليست من النصوص التي تتكرر عادة في الدراسات والمقالات عن السرد العربي القديم، مما يشير الى جهد كبير بذله الكاتب في البحث والرصد والتصنيف للنصوص المختارة، اذ يستعمل في تعليقه مفردات مثل ( سرد قصير، البنية،ت قنيات حذف وتلخيص ومظاهر ترهل، الاحداث والشخصيات، المفارقة، مغزى السرد، المبنى الحكائي، أو القيمة السردية). وعلى هذا النحو من طرائق الوصف النقدي، للانتقال للحديث عن أساليب الصوغ السردي القصصي. ورغم تلك الإشارة في التمهيد الى مفارقة المرويات العربية القديمة للنصوص القصصية الحديثة، لكن الدراسة اتخذت من هذا الجانب على وجه التحديد وسيلة أجدها نبيلة ومهمة في إعادة النظر الى التراث بعيون نقدية معاصرة، فكتاب فتنة السرد، فضلا عما يحمل من ميزة تجديد القراءة النقدية لنصوص أدبية قديمة، فانه منح كل نص ( خبر) فيه اهتمامه الخاص وتعامله المتميز، بوصفه القادر على فرض منطقه في التحليل والشرح والتوضيح، مما جنب الدراسة فخ الوقوع في التنميط أو (لي) أعناق النصوص التي تعثرت فيها دراسات خاضت في المجال نفسه، لكنها اعتمدت التعميمات والقوالب الثابتة التي ألبستها بطريقة أو بأخرى لنصوص فيها عمق وبعد نظر في الصوغ والعرض .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top