في بداية عقد تسعينيات القرن الماضي، وبعد أن غزا الديكتاتور صدام حسين دولة الكويت، تحولت العاصمة البريطانية لندن الى وجهة جذب للكثير من العراقيين،
من مختلف الشرائح والإنحدارات والتوجهات السياسية، بعد أن طوحت باحلامهم ضيق المنافي وشُح فرص العمل من جهة، وتصاعد نبرة قرع طبول الحرب على بلدهم من جهة أخرى. كان عدنان حسين، غادرنا عصر أمس الموافق العاشر من تشرين الأول/أكتوبر عن عمر تجاوز السبعين بقليل في إحدى مستشفيات لندن، واحداً من بين أسماء عديدة كنا نتابع كتاباتها في الصحف العراقية والعربية، خصوصاً الفلسطينية. وقتها وهو القادم من سوريا، بعد إقامة قاربت العقد من الزمن، كتب عدنان سلسلة من المقالات السياسية تفضح النظام الديكتاتوري عبر وثائق إدانة وأفعال مشينة لما يتعرض له الصوت المختلف أو المعارض ولتجد طريقها الى صحيفة الشرق الأوسط اللندنية. تلك الكتابات سجلت له موقفاً مناهضاً، سياسياً وأخلاقياً، لنظام بلده لا يقبل المزايدة. تلك السنوات كانت مليئة بالتحولات والعواصف السياسية وحبلى بتداعيات يصعب تدارك عواقبها، إنهيار المنظومة الإشتراكية، توحيد الألمانيتين، كثافة التواجد الأمريكي في المنطقة وعملية "عاصفة الصحراء" العسكرية التي هزّت النظام بقوة لكنها أبقت على رأسه، فرض الحصار الإقتصادي على شعب لم يكن له رأي بحماقات حاكمه ونزقه، إنطلاق مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط وما أثمر عنه من إتفاق أوسلو بين الاسرائيليين والفلسطينيين. كانت الصحافة العربية الصادرة من لندن آنذاك بمثابة الموشور الذي تترشح منه تقلبات المواقف السياسية الشخصية للعديد من الكتاب والصحافيين، عراقيين أم عرباً. ولربما إحتفظ الراحل عدنان حسين بمسافة معقولة، يمكن مراجعة أرشيف كتاباته، تشي بموقف وطني واضح تجاه قضية العراق والخلاص من نظام انتهت صلاحية بقاءه وفي ظل بروز نجم العم سام كقطب عالمي أوحد. في "صحيفة الشرق الأوسط" تكرس عدنان حسين كأحد كتاب الأعمدة السياسية فيها، وأسندت له مهام إدارية وتنفيذية فيها، ما فتح له الباب واسعاً للتعرف على شخصيات عراقية معارضة، رغم كونه معارضاً للنظام السياسي في بلده، وأخرى لم تكن معروفة ومثلهم شخصيات عربية. ولعل جردة سريعة لما كتبه على مدى سنوات طويلة في العمل الصحفي تؤشر، أيضاً، الى رصانة وموضوعية مبادئ ما تعلمه من الدراسة في كلية الإعلام، والى أخرى تسربت إليه من خلال عمله في صحيفة "طريق الشعب" الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي. بين لندن والكويت، حيث تولى مسؤولية تحرير صحيفة "آوان"، وكان للأمانة سباقاً في الطلب مني بالتعاون معه، ثم العمل في صحيفة المدى البغدادية، كانت له زاوية "شناشيل" اليومية ظل هاجس الوقوف مع الصوت العقلاني والمدني هو الطبع الطابع لها ولسمته الشخصية. ذات مساء كنا نتحدث في بغداد عن الوضع العراقي المنفلت، وكنت أساءل كيف يمكن للصحافة الرصية ان تتماشي مع وضع إنتقالي صعب حيث تختلط السير والتواريخ والمواقف. أجابته كانت بمنتهى الدقة والوقار، صحيح جداُ، ولكن إليس عمل المؤسسة الإعلامية فرز ذلك. زيارتي الأخيرة له، قبل أشهر، في المشفى كان يطلعني على ما يقرأه من كتب لتزجية الوقت وكتابة عموده اليومي "شناشيل"، وبما وضعني في حيرة من أمري حول قدرة الإنسان على تحدي ومواجهة خباثة مرض لا يقل فتكه عن سياسي المصادفة الجدد الذي جاءت بهم اشتراطات نظام المحاصصة الطائفية والاثنية السحرية. أظن ان أخبار ما تعرض له شباب المظاهرات السلمية الأخيرة على أيدي حكومة المنطقة الخضراء، تلك التي استعانت بقناص مأجور يختار الأجمل منهم لينهي صوت احتجاجه، فاتت على قلم عدنان حسين. صديقي عدنان أطمئن فقد وصلت رسالتك رغم صمتك، إذ كنت وفياً للوعد. وعد يعيش العراقي فيه في ظل نظام حكيم ورحيم ومدني. نم قرير العين.
فيصل عبد الله
اترك تعليقك