علي عبد الرحيم صالح
يعد التعلق أحد الأجهزة النفسية التي تنظم مدى قرب أو بعد علاقتنا بالعالم من حولنا، ونقصد بالعالم بكل ما يحمله من أشخاص وأحداث وأماكن وأشياء؛
وهو يتمثل بالروابط الانفعالية والاجتماعية العميقة التي نشعر بها تجاه موضوع معين؛ ينشأ التعلق وفقاَ للعالم بولبي Bowlby,1969 في مرحلة الطفولة، وذلك عندما تتشكل العلاقة الخاصة بين الطفل ومقدم الرعاية (الوالدين عادة)، فإذا كان القائمون بالرعاية حساسين لحاجات الطفل، ويستجيبون بسرعة عندما يشعر بالخوف، ويساعدوه على التكيف مع البيئة، فأن هذا الطفل سيشعر بالراحة والطمأنينة والتعلق الآمن، في حين عندما لا يجد الطفل من يشبع حاجاته بصورة منتظمة، ولا يوفر له الدفء الجسدي، ويحميه من مخاطر البيئة فأنه سيشعر بالحزن والاكتئاب والتعلق غير الآمن. وعلى الرغم من أن التعلق يظهر في مرحلة الطفولة إلا أن خبرات التعلق يمكن أن تعمم إلى العالم ككل، إذ نجد أن الناس يشكلون رابطة عاطفية حول موضوع معين له صلة بمشاعر الأمن؛ وهذا الموضوع يمكن أن يكون متاحاً لهم عندما يحتاجون إليه، وانه يساعدهم ويحميهم في الأوقات الصعبة، ويمنحهم السكينة والثقة في التغلب على مصاعب الحياة.
كيف نتعلق بالوطن؟
منذ السنوات الأولى من الحياة، يقوم الأفراد بتأسيس جذور وروابط انفعالية واجتماعية مع الوطن، إذ من خلال خبراتنا الطيبة أو السيئة التي تنتج عن الجماعة والهوية والمكان الذي ننتمي إليه، نقوم بتأسيس نماذج تعلقية عقلية تعكس علاقتنا بوطننا، وهذه النماذج العقلية عبارة عن تصورات وتوقعات وانفعالات تشكل علاقتنا به، وينتج عنها مشاعر الوطنية والانتماء والحب والولاء لهذا البيت الكبير. إذن ينطلق التعلق من ذاكرتنا الشخصية والجمعية التي تحتوي جميع الخبرات والأحداث الانفعالية والمعاني والقيم التي تعكس مفهوم الوطن في ذهن أبنائه، ووفقاً لهذه المعاني تستثار الهوية الوطنية، ويظهر مدى استعداد الأفراد في الدفاع عن وطنهم أو التخلي عنه، عندما يكونون في حالة تهديد وصراع أمام الهويات الوطنية الأخرى، فضلاً عن ذلك نجد أن التعلق بالوطن يعكس العديد من القيم الأخلاقية السامية مثل النزاهة والأمانة والعدالة في حين أن كراهية الوطن ترتبط بالاغتراب والخوف وشيوع الفساد.
أنواع التعلق بالوطن
توصلت الدراسات النفسية إلى وجود ثلاثة أنماط مختلفة حول التعلق، إذ تظهر هذه الأنماط حسب الخبرات التي يتعرض لها المواطنين أثناء عيشهم في وطنهم، ومدى قدرة هذا الوطن على إشباع حاجاتهم المادية، وإحساسهم بالأمن والراحة والاحترام. وتتمثل هذه الأنماط بالآتي:
أ. التعلق الأمن بالوطن Secure Attachment for country: يظهر هذا النوع عندما يعيش الأفراد في وطن يقدر حاجاتهم، ويحترم حقوقهم، وهوياتهم، لذا يشعر المواطنين هنا بالانتماء والفاعلية والثقة وعدم الخوف والرغبة في إعلاء مكانة وطنهم، وحتى لو ابتعدوا عنه فأنهم سيبدون درجة منخفضة من القلق، لأنهم حتماً سيرجعون إليه، وسط مشاعر الفرح والبهجة والحب، نتيجة لذلك نجد أن الأفراد ذوي التعلق الآمن لا يرغبون باستبدال وطنهم بأخر، وإنما يعتزون به، ويفخرون بالانتماء له، ولا يعلقون الأخطاء السياسية والاجتماعية على حائطه.
ب. التعلق التجنبي بالوطن Avoidant Attachment for country: يظهر هذا النوع عندما يعيش الأفراد في وطن غير آمن، إذ يشعر المواطنون بالخوف والخطر وعدم الأمان أثناء عيشهم في وطنهم، فهم بالكاد يشبعون حاجاتهم، ويتنافسون مع أبناء جماعتهم بطريقة سلبية، ويعيشون وسط أجواء مشحونة بالسخط، وهذا ما يجعلهم لا يثقون بالآخرين ، ويشككون بنواياهم وصدقهم، ويشعرون بالسلبية تجاه هويتهم الوطنية، وعدم الكفاية، والدونية، وتبني أحكام سلبية وناقدة تجاه مجتمعهم، مما يدفعهم نحو البحث عن وطن آخر، وتبني هوية جديدة.
ج. التعلق القلق بالوطن Anxious Attachment for country: يظهر هذا النوع عندما يعيش الأفراد في وطن غير مستقر، بمعنى هناك تذبذب في الأجواء العامة التي يعيشها المواطن، فتارة ينعم بالآمن والاستقرار والسعادة، وتارة أخرى يواجه ظروفاً مضطربة وقلقة تسلب راحته وطمأنينته، وهذا ما يجعل مزاج المواطن متقلباً، ومشغول البال، وتتحول مشاعره إلى نكد وغضب وسخط، لذا نجد أن المواطن لديه رغبة في ترك وطنه إلا أنه لا يستطيع العيش من دونه، وحتى لو هاجر إلى وطن آخر، فأنه سرعان ما يشعر بالاغتراب الشديد، الذي يدفعه إلى العودة مرة ثانية.
التعلق بين المواطن والوطنية
نجد مما سبق أن التعلق الآمن يعد عاملاً حاسماً في تشكيل الشعور بالوطنية Patriotism (التي تتمثل بمشاعر الحب ورغبة الارتباط بالوطن والحفاظ عليه) وشعور الفرد بالمواطنة Citizenship (ارتباط الشخص بمجتمعه ودولته وأرضه وجعله عضواً فيها)، إذ ينتج عن كلا المفهومين الشعور بالهوية، والولاء للوطن، وخدمته في أوقات السلم والحرب بالتعاون مع أبناء الجماعة. فإذا أردنا خلق أفراد يشعرون بحب الوطن، ويتمتعون بروابط انفعالية واجتماعية أصيلة مع وطنهم فأنه لابد من بعض الاهتمامات الرئيسة، منها:
أ. توفير الاشباعات والمتطلبات الضرورية للعيش الكريم مثل المأكل والسكن والدواء والتعليم.. وغيرها، ب. تمتع المواطن بحقوقه، ومنح الفرص في التعبير عن نفسه وإمكانياته المتنوعة،
ج. احترام العادات والتقاليد وعدم المساس بالمقدسات،
د. العدالة في توزيع الموارد والفرص وعدم إعطاء الامتيازات لفئة معينة دون أخرى.
هـ . توفير الرفاهية والارتقاء بمجالات الحياة كافة. وبهذا الصدد وجدت الدراسات أن شعور المواطن بالتعلق الآمن له علاقة بالصحة النفسية والجسمية الطيبة، وارتفاع مستوى تقدير الذات، وانتشار العلاقات الاجتماعية الإيجابية، وتدني مظاهر السرقة والغش، والتمتع بحرية التفكير، وديمقراطية الانتخاب، وتنوع الثقافات الفرعية واحترام وجودها. في حين بينت دراسات أخرى أن شيوع التعلق التجنبي والقلق له علاقة بارتفاع نسبة الانتحار والاكتئاب والشعور بتدني الهوية الوطنية والتهميش والانفصال عن الوطن.
اترك تعليقك