آلامُ بــوريس باستــــرناك

آلامُ بــوريس باستــــرناك

جودت هوشيار

1-2

في منزل باسترناك

قبل عدة أسابيع ، زرت منزل ( الآن متحف ) الشاعر بوريس باسترناك في ( بريديلكينا ) ، بلدة الكتّاب في العهد السوفيتي ، الواقعة في ضاحية موسكو الشمالية.

هنا عاش الشاعر بين عامي 1939-1960 . وهنا تلقى نبأ فوزه بجائزة نوبل في الأدب لعام 1958 . وهنا توفي في 30 أيار 1960.

منزل خشبي من طابقين مثل كل منازل البلدة . غرفة نوم ، ومكتب الشاعر ومكتبته الشخصية الثمينة في الطابق الثاني . أثاث البيت متواضع ، ولكن البيانو الأسود العائد لوالدته ، روزاليا باسترناك ، واللوحات الفنية الرائعة ، والصورالمعلقة على جدران غرفة المكتب والصالة – وهي من إبداع والده الفنان الشهير ليونيد باسترناك - تدل على أن الشاعر نَشَأَ وَشَبَّ في أجواء فنية راقية، حيث كان يتردد على منزل العائلة العديد من كبار الفنانين والأدباء وبضمنهم الكساندر سكريابين وليف تولستوي.

جلستُ في المكتب الذي كتب فيه الشاعر قصائده الرائعة ، ورواية " دكتور زيفاغو " وغرقت في الحزن والأسى . يا إلهي ، كم تعذّب الشاعر ، وكيف سممت السلطة حياته بعد فوزه بجائزة نوبل ؟. وكم نشر في الدول الغربية من أساطير وأكاذيب حول ما سمي بقضية باسترناك ؟ ، وكيف تم تسييس القضية خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والإشتراكي ؟ . وكم كتب في العالم العربي من مقالات وتعليقات عن باسترناك وروايته إستناداً الى مصادر غربية متحيزة ؟.

أعتقد أنه قد آن الأوان لألقاء الضوء على قضية باسترناك - بعيداً عن الأوهام ، والإثارة الاعلامية - استناداً الى الوثائق الرسمية الروسية ، ووثائق الأكاديمية السويدية – مانحة الجائزة - التي كُشف النقاب عنها في السنوات الأخيرة .

طريق باسترناك الشائك الى جائزة نوبل

يخطئ من يظن أن منح جائزة نوبل في الادب لعام 1958 الى بوريس باسترناك ، كان فقط بفضل رواية " دكتور زيفاغو " التي أثارت فور نشرها في ايطاليا عام 1957 ومن ثم ترجمتها في الأشهر اللاحقة الى أكثر من عشرين لغة ، ضجة أدبية وسياسية في روسيا والعالم ، لم يسبق لها مثيل .

باسترناك واحد من أعظم شعراء القرن العشرين ، واحتل مكانة راسخة في الأدب العالمي قبل كتابة هذه الرواية بسنوات طويلة . وكما يظهر من وثائق لجنة نوبل ، التي نشرت عام 2008 بعد مرور خمسين عاماً على منح الجائزة ، أن باسترناك كان، مرشحاً بارزاَ لنيل هذه الجائزة المرموقة في عام 1946 أي قبل أحد عشر عاماً من نشر رواية "دكتور زيفا غو". وقد قام بترشيحه سيسيل موريس باور ، وهو عالم انجليزي ضليع في اللغات السلافية، وباحث بارز في الشعر الروسي . ولكن الجائزة ذهبت في تلك السنة الى الكاتب الألماني هيرمان هيسه . ولم يختف إسم باسترناك من لائحة المرشحين للجائزة خلال أعوام ( 1947، 1948 ، 1949 ).

ثمة تقليد درجت عليه اكاديمية العلوم السويدية ( مانحة الجائزة ) وهو أن يوم 31 كانون الثاني من كل عام ، هو آخر موعد لقبول الترشيحات . وفي هذا اليوم يحق لكل عضو في الأكاديمية تقديم مرشحه لنيل الجائزة . وكان عضو الأكاديمية الناقد الأدبي ( مارتن لام ) قد رشح باسترناك للجائزة عام 1948 ، وكرر ترشيحه عام 1950 .

توقفت محاولات ترشيح باسترناك للجائزة عندما أصبح من الواضح الخطر الذي قد يهدده في بلاده ، بعد أن تعرض الى نقد لاذع بسبب حفاظه على حريته الابداعية بعيداً عن شعار حزبية الأدب . وظهر اسمه مجدداً ضمن قوائم المرشحين بعد وفاة ستالين . ففي عام 1954 ، تردد اسم باسترناك كمرشح لنيل الجائزة ، ولكن لجنة نوبل قررت منحها الى أرنست همنغواي .

رواية " دكتور زيفاغو "

بعد انتصار الجيش الاحمر في الحرب الألمانية السوفيتية ( 1941- 1945 ) ، التي يطلق عليها الروس إسم " الحرب الوطنية العظمى " كانت الآمال تراود الشعب السوفيتي بفتح آفاق جديدة للتطور وحرية التعبير . وفي هذا المناخ الذي كان يوحي بالتفاؤل ، شرع باسترناك في خريف عام 1946 بكتابة الفصول الأولى من رواية " دكتور زيفا غو " والتي لم تكتمل الا في عام 1955 .وكان باسترناك نفسه يعتبر هذه الرواية ذروة إبداعه النثري .

ترسم الرواية لوحة عريضة لحياة المثقفين الروس على خلفية الفترة الممتدة من أوائل القرن العشرين وحتى الحرب الوطنية العظمى . وتتسم الرواية بشعرية رفيعة ، وتتناول مصير المثقفين في الثورة ، وتتضمن قصائد باسترناك الرائعة المنسوبة الى البطل الرئيس للرواية ، يوري زيفاغو ، وهو شخص مبدع يفسر الواقع المحيط به فلسفياً .

كان لتقرير خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1956 ، الذي أدان فيه الستالينية تأثير كبيرفي الرأي العام السوفيتي. وظهرت أمام باسترناك فرص جديدة ، وكان قد انتهى قبل ذلك بفترة وجيزة من كتابة رواية "دكتور زيفاغو"، فقدّم بعض النسخ منها لأدباء من أصدقائه ، وعرضها على مجلتين أدبيتين مرموقتين هما " نوفي مير - العالم الجديد و" زناميا - الراية ". وكان هناك أمل حقيقي في نشرها . -

أثار تقرير خروتشوف اهتمام العالم بما يحدث في موسكو ، وأدى الى تعزيز الإتصال الثقافي بين الاتحاد السوفيتي والعالم الخارجي . وفي هذا الإطار زارت وفود أدبية من بولندا وتشيكوسلوفاكيا بلدة الكتّاب في " بيريدلكينا " والتقت باسترناك . وقد تمكن رئيس اتحاد الكتّاب البولنديين ، زيموفيت فيديتسكي من الحصول على نسخة من رواية "دكتور زيفا غو" لنشر ترجمتها البولندية في مجلة " اوبينين " الأدبية التي كان الإتحاد يتهيأ لإصدارها قريباً . وبحث باسترناك أيضاً إمكانية نشر الترجمة الجيكية للرواية.

في أيار 1956، قدم باسترناك نسخة من " دكتور زيفاغو" للصحافي الإيطالي سيرجيو أنجيلو ، الذي وصل بناء على طلب دار نشر فيلترينيللي الى بلدة بيرديلكينا مع زميله في إذاعة موسكو ف. فلاديميرسكي. وقالا لباسترناك : " إذا كانت الرواية ستنشر في موسكو ، فلماذا لا نسرع في اتخاذ قرار بشأن نشرها في دول أخرى؟ "

وأكد باسترناك أكثر من مرة ، أن يعض نسخ الرواية ، كانت تنتقل علانية بين أصدقائه الأدباء ، وإن كانت ثمة شكوك حول ردود فعل المجلات السوفيتية ، التي تماطلت على نحو مثير للريبة في نشر الرواية ، وأفصح باسترناك عن هذا الأمر صراحةً لانجيلو ، ملمحاً الى المخاطر التي سيواجهها إذا رفضت المجلات السوفيتية نشر روايته . وقال لأنجليو مودعاً :" سأدعوك إلى عملية إعدامي ."

في أيلول 1956 ، أرسل باسترناك الرواية إلى إنجلترا ، وفي شباط 1957 ، إلى فرنسا. واثار ذلك ، قلق قسم الثقافة في اللجنة المركزية للحزب الحاكم ، والذي حاول بشتى الطرق عرقلة نشر الرواية في البلدين ، واصفاً رواية باسترناك بأنها "معادية للسوفيت". وصدر توجيه حزبي الى مجلة "نوفي مير" برفض نشرها. بذريعة عدم ادراك المؤلف لدور ثورة أكتوبر ومشاركة المثقفين فيها .

باسترناك يتصدر لوائح الترشيح لجائزة نوبل من جديد

في 31 كانون الثاني عام 1957 ، تكررالأمر نفسه ، حيث، اقترح عضو آخر في الأكاديمية السويدية ، وهو الشاعر السويدي هاري مارتينسون ، ترشيح باسترناك للجائزة . وكان هذا الشاعر قد التقى باسترناك عام 1934 في موسكو في المؤتمر التأسيسي لاتحاد الكتّاب السوفيت.

وذكر لويس مارتينيز مترجم دكتور زيفاغو الى الفرنسية ، إنه عندما كان يعيش مع ألبير كامو في قرية صغيرة ، يقوم باطلاعه على فصول الرواية المترجمة أولاً بأول . وفي 8 شباط عندما اكتملت ترجمة الرواية ناقش مع كامو امكانية ترشيح باسترناك لجائزة نوبل . وقام بريس لويس من دار نشر غاليمار بتشجيع كامو على ترشيح باسترناك للجائزة ، وإن ذلك سيكون أفضل حماية يقدمها الغرب الى الشاعر المضطهد .

وقد وصف ألبير كامو – في الخطاب الذي ألقاه في حفل استلام جائزة نوبل في الادب لعام 1957 – باسترناك بالشاعر العظيم ، وإنه مثال الشجاعة والشرف ، وإن الفن في بعض البلدان مسألة خطرة وعمل بطولي .

في عام 1958 ، تم ترشيح باسترناك للجائزة من قبل خمسة أساتذة أكاديميين في آن واحد: إرنست سيمونز (جامعة كولومبيا) ، هاري ليفين ، ريناتو بوجيولي ، رومان جاكوبسون (جامعة هارفارد) وديمتري أوبولينسكي (جامعة أكسفورد) . وأخيراً وقعت اختيار لجنة نوبل على بوريس باسترناك ، وكان ضمن المرشحين الأقوياء في هذا العام ( عزرا باوند ، البرتو مورافيا ) إضافة الى مرشح الدولة السوفيتية ميخائيل شولوحوف .

في 23 تشرين الأول 1958، أعلن أندريس أوستيرلينغ ، السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية ، منح جائزة نوبل في الأدب لذلك العام الى بوريس باسترناك " لإنجازاته الكبيرة في الشعر الغنائي الحديث ، ومواصلته لتقاليد الرواية الملحمية الروسية العظيمة " .

وفي اليوم نفسه بعث باسترناك برقية جوابية الى أندريس أوستيرلينغ يقول فيها : " ممتن للغاية ، متأثر ، فخور ، مندهش ، مرتبك " .

توجه عدد كبير من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء العالمية الى بلدة الكاتب " بريديلكينا " لمقابلة باسترناك . وجاء الكاتب كورني جوكوفسكي جار باسترناك وصديقه وقدّم له التهاني الحارة لهذه المناسبة . وشرب الجميع نخب الكاتب ، متمنين له المزيد من النجاح . ولكن لم يمض سوى أقل من نصف ساعة حتى ساد الوجوم وجه الكاتب الفائز بأرفع جائزة أدبية . فقد جاء أحد جيرانه ، وكان من الكتّاب السوفيت المشهورين في ذلك الحين ( والمنسي تماما حالياً ) وهو كونستانتين فيدين ، وقال لباسترناك بلهجة صارمة - دون ان يهنئه بفوزه بالجائزة – وكأنه قد ضبطه بالجرم المشهود :" من أجل تجنب العواقب الوخيمة ، يجب عليك رفض الجائزة طوعاً، وإن ( بوليكاربوف ) مسؤول القسم الثقافي في اللجنة المركزية للحزب موجود الآن في منزلي ينتظر جوابك" . ولكن باسترناك رفض الحديث مع فيدين ، ولم يذهب معه لمقابلة بوليكاربوف .

تظاهرة إجبارية !

وفي مساء اليوم نفسه أسرع بعض الطلاب الدارسين في معهد الأدب العالمي في موسكو – من عشاق شعر باسترناك – الى إبلاغه بأن إدارة المعهد تعد تظاهرة معادية له تخرج غداً وترفع شعارات تطالب بطرده من الاتحاد السوفيتي ، ورسوم كاريكاتيرية تسخر منه . وقد ابلغتهم إدارة المعهد ، إن من يتخلف عن الحضور سيجري فصله من المعهد على الفور. ،وعلى جميع الطلبة التوقيع على رسالة موجهة الى الصحيفة الأدبية " ليتراتورنايا غازيتا" - وهي أهم صحيفة أدبية مركزية في البلاد - تتضمن إستنكار الطلاب للعمل ( المشين ) الذي قام به باسترناك . معظم الطلبة اختبأوا في دورات المياه ، ولم يذهب الى التظاهرة الا حوالي مائة طالب اي أقل من ربع العدد الاجمالي لطلبة المعهد .وكان الشعار الرئيس للتظاهرة : " نطالب بطرد يهوذا باسترناك من البلاد ".

وفي يوم السبت ، 25 تشرين الأول صدرت " الصحيفة الأدبية " ، وتصدرها مقال افتتاحي طويل ، ورسالة من أعضاء هيئة التحرير وعشرات الرسائل الغاضبة ، التي زعمت الصحيفة أنها تلقتها من أنحاء الإتحاد السوفيتي . وهي كلها تندد بباسترناك ،وتصفه بأشنع النعوت ( خائن الوطن ، عميل الغرب ، عدو الشعب الروسي ، إنسان تافه ، كاتب شرير ) وما الى ذلك من أوصاف وشتائم تزخر بها اللغة الروسية أكثر من أي لغة أخرى في العالم .

وفي اليوم التالي أعادت كل الصحف السوفيتية نشر ما جاء في " الصحيفة الأدبية " من مواد معادية لباسترناك . ومن حسن الحظ أن باسترناك لم يكن يقرأ الصحف في تلك الأيام ، ولم يطلع على ما نشرته من مقالات تحريضية بحقه .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top