TOP

جريدة المدى > عام > إرادة الذاكرة: عري الجسد جماله حجاب

إرادة الذاكرة: عري الجسد جماله حجاب

نشر في: 28 أكتوبر, 2019: 06:41 م

ناجح المعموري

المكان ذاكرة ، تخيلات ، سرديات ، تقشرات المكان واضحة على سطحه الخارجي . عبر الاستذكارات والتقشر مروياته تحضير لاستعادة الماضي وآثاره من أجل إيقاظ المسكوت عنه ،

نعم لأن الأمكنة قادرة على البقاء والبقاء تحدياً للأزمنة ، ويعني هذا مثول الفرد / الجماعة ، من خلال ذاكرات قديمة ، خازنة لأحلامها وتصوراتها وتقاليدها . التي لا تبتعد كثيراً عن الجماعات التي تخيلت وأسست مجتمعاً تمثيلياً .

تعمق الموقف المعرفي والثقافي ، عن هوية فؤاد وقوة الانتماء الحقيقي والشفاف للعراق على الرغم من كل ما حصل له عندما كان فيه وحتى استدعاءاته بعد هروبه للخلاص من القسوة وهيمنة السلطة لكن الوطن حاضر . هو ضميره الحقيقي الكاشف عن الرحم / الأمّ ونوعية علاقته معها ( ترك حقائبه على حافة الشارع وانساق صوت أمّه التي استقبلته بذراعين مشرعتين ضامةً إياه الى صدرها ، كانت تعصره وهو يشم روائح جسدها التي لم ينسها يوماً . رائحة الثدي الذي التقمه لثلاثة أعوام ، رائحة الثوب الذي كان يدس انفه بين طياته كي ينام . رائحة البخور والحرمل ليالي الجمعة ... رائحة دموعها وهي تبكي أمها ، التي ماتت ولم تحقق حلمها ببناء الضريح ... رائحة تعطرها لأبيهٍ بليالٍ هي تختارها / ص 408).

كانت عودته ــ فؤاد ــ ناقصة لأن حلم الأمّ لم يكتمل إلا بعودة الاثنين ، محي وفؤاد معاً : فؤاد ها أنت قد عدت فأين أخوك محيي ؟؟ 

انتج المكان ذاكرته ، وهي أكثر الشفويات الحاضرة ، والباقية للآبد ، ومن يأتي لاحقاً للمكان يستلم مروياته بوصفها الموروث الذي أودعه الجيل أو الأجيال الأسبق ، إنها ــ المرويات ــ ثقافة متراكمة تزداد طاقتها من خلال حضورها اليومي واستفادتها من استدعاءات قديمة ، حفظت مرورثات ، هي بعضاً من هوية ، استطاعت مقاومة كل محاولات تعطيلها وإيقاف سيرورتها بالتشاكل مع عناصر ثقافة الجماعات المعاصرة . لا شيء وجد خارج إطار اللسان ، بمعنى ارتباط الحضارة وكما قال " هيغل " اللغة هي وعي التاريخ ، والتاريخ هو الحرية واللسان منتج العلاقات والرموز ، وهما ما جعلهما الإنسان متداولات له وكماً ورد في السيمياء إن الدلالات هي شهادة على أن الإنسان يتداول العلامات لا الأشياء التي تدل عليها .

كما قال سعيد بنكراد . اللسان سلطة ابتكرت واخترعت لغتها وثقافتها إنه البيان الذي امتلك العالم وانتج التاريخ وتداوله شفاهيات باقية محتفظة بطاقتها الممنوحة لها من السلف ، وما توفر عليه من امكانات اجتما ــ ثقافية . كنا سجلنا ملاحظة متكررة عن العنصر البنائي الذي تداوله القاص القيسي وأعني به الميتا سرد باعتباره توظيفاً تاريخياً ، لأن الاجتماعي غير معزول عن التاريخ . كلاهما مندغمان وأحدهما يغذي الآخر ، واستوعبت الرواية كثيراً من الشخوص منها تحول الى مركز سردي قوي لا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله بما يماثله ، واعني شخصية " عايد " الذي استجمع شبكة رمزية كبرى ، وتمظهرت عنه كل الملاحظات والاضطهادات والانحرافات ، السقوط ، النجاح الوهمي ، الشذوذ .....الخ إنه السلطة التي استعمرت ذاكرة فؤاد . واختصر القاص بعضاً مما تميزت به شخصية " عايد " هناك شخص التقيته في أحد المواضع أيام الحرب العراقية الإيرانية اسمه عايد .... وظل يطاردني في أحلامي وينغص عليَ أيامي . فتارة اضاجع امرأة بالحلم لاكتشف إني أضاجعه . وأخرى أراه وهو يعدمني والليلة كان هو من قام بدور القابلة لمعاونة أمي على ولادتي .

ظلت أخيراً المرويات وصدقها الواضح الكاشف عن بياض الهوية الوطنية مع المحافظة على التاريخ الذي سجله الأبناء وسأكتفي للإشارة لذلك بما هو مختصر : السلمون يسبح ضد التيار لهدف نبيل قد تموت الكثير من الأمهات بتلك الرحلة ، ولكن الأخريات يضعن بيضهن ، أعالي النهر ، ليولد جيل جديد تستمر به الحياة . أما انتم فتسبحون ضد التيار أملاً بكسر تلك البيوض ، وقتل الحياة . تسبحون ضد التيار ساحبين معكم مجتمعاً وبلداً بأسره الى ماضٍ تنبشون به يومياً بحثاً عما يدعم مسلماتكم // الرواية ص 415//

وظّف القاص فاضل القيسي التاريخ بذكاء ، ليس بوصفه مجموعة من الوثائق والأحداث ، التي عاشها العراق ، والكثير من الشباب فيه ، لأنه استطاع تنقية التاريخ بذكاء ، ليس بوصفه مجموعة من الوثائق والأحداث ، التي عاشها العراق ، والكثير من الشباب فيه ، لأنه استطاع تنقية التاريخ من الموجود فيه ، والذي يعني المؤرخ ، بل ذهب القيسي الى التاريخ باعتباره معنى كما قال رولان بارت ، متوافقاً مع هايدن وايت الذي تعامل مع التاريخ متجاوراً مع الأدب ، بمعنى منحه فرصة الاخضاع للتأويل والتفسير ، وكشفت بعض الدراسات الحديثة عن وقائع تاريخ قديم الى تنوعات تأويلية لا بل ذهب هايدن وايت وهارتمان الذي جعل التاريخ والفلسفة والادب قابلة للتحليل والاختلاف حول ذلك ، وما دام التاريخ منفتحاً على الفحص ، فانه متماثل مع الادب . ومثلما قال رولان بارت مقولته الشهيرة والمبكرة جداً : إن التاريخ مجموعة من الدوال . استطاع القيسي صوغ رموزه الخاصة المبتكرة وسط ترتبه وليست مستلة من الآخر ومن بعد تستعيدها لتوظف عبر رموزها وعلاماتها الخبرات المبثوثة فيها ( وتسقط من خلالها المستقبل وتفهم من خلالها الحاضر ) كما قال سعيد بنكراد .

استطاع القاص القيسي استعادة التاريخ من مكامنه القديمة . وماضيه البعيد والعميق . والاستعادة ضرورة مهمة والتاريخ مرويات ، عاشت بذاكرة الأفراد وظلت متداولة بوصفها إرثاً ممنوحاً لهم من الآباء والاجداد . إنه ــ التاريخ ــ قابل بالاستدعاء والحضور ، لكنه لا يظل ساكناً بل متحركاً بقوة المخزونات المحكية ، وهو يمثل المجال الذاتي الذي قال عنه يونغ ، إنه الفاعل في ثنائية العلاقة بين الجماعة والأسطورة وعناصر الدين والتاريخ المشحون بالأحلام والأوهام ، كما ذهب لذلك يونغ ، وبوصفها مصدر الطاقة للتكيف بالنسبة للجماعات من أجل الحصول على معارف أكثر . ولابد من التذكير بأن الأسطورة وثيقة تاريخية ، محكية أو مكتوبة ، وهي ليست مثلما كانت في بدايتها . لأنها بداية عملية معقدة ولا واعية .

تغير ما اعتاد عليه سمك السلمون ، وارتضى السباحة مع التيار 

(( بطوله الفارع وقف أمام مرآة محاولاً اقتلاع شعرة استوطنت خده الأيمن بملقطٍ معدني . كان ينظر في المرآة وهو يرتدي ملابسه العسكرية وضع الملقط على الطاولة وقد استقرت بين كماشتيه شعرة سوداء ليعتمر بيريته )) تكرر هذا النص كله في ختام الرواية منذ " بطوله الفارع " وتغيرت نهايته : شعرة بيضاء ليعتمر عمامته / ص 425//

هنا حصل التحول الكبير في الثقافة ، وخسر العقل نقديته وخسر كل شيء حاز عليه من تجارب حياته وارتضى بوعي قاده نحو فضاء متغاير ، سيسلك طريق الخراب .// سلمون عراقي / رواية / روافد للنشر والتوزيع / القاهرة 2018/ فاضل عبد الله القيسي . 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مسرح ذهني للقرّاء

جواهر سينمائية.. توثيق لحياة ثلاثة رموز سينمائية

هيثم فتح الله: تأثيرات الفن التشكيلي على أسلوبي كانت واضحة، بنقل الفوتوغراف إلى لوحة فنية

مسرحية هيكابي.. نظرة في المشهد التمهيدي

الفعاليات غير النفعية مهمة لحياة البشر

مقالات ذات صلة

الفعاليات غير النفعية مهمة لحياة البشر
عام

الفعاليات غير النفعية مهمة لحياة البشر

أدار الحوار: سوزان كروغلينسكي ترجمة: لطفية الدليميتقديم المترجمة:الحوار التالي ترجمة لمعظم فقرات الحوار المنشور بمجلّة Discover بتأريخ 13 يناير (كانون ثاني) 2007، وتمّ تحديثه بتأريخ 12 نوفمبر (تشرين ثاني) 2019 (بعد وفاة منسكي). سيلمس...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram