لطفية الدليمي
كم هي غريبة وعصيةٌ على الفهم تلك المقادير الفنتازية التي عصفت بالعراق منذ ولادته كمملكة ذات علم ودستور وجيش عام 1921 !! صحيحٌ أنّ العراق نشأ كصناعة بريطانية ؛
لكنه جاء ولادة مبشّرة بالكثير من الآمال التي كانت خليقة بجعله تجربة ليبرالية ناشئة تمتلك قدرة الإشعاع والتأثير في منطقة الشرق الأوسط على أقلّ تقدير ، ثمّ إنتهت تلك التباشير الليبرالية إلى عسكرتاريا غاشمة أسلمتنا في نهاية المطاف إلى ثلُّة من الحكّام الفاسدين والمزوّرين الجوعى إلى المال والسلطة بشراهة مقيتة عصفت بمستقبل العراقيين وقزّمت العراق وجعلته أقرب إلى جزيرة منسية متدنية الشأن يتآكلها الفساد مثلما تنخر الأرضة جذع شجرة يابسة .
نتائجُ كثيرة خرجنا بها من احتجاجات الشباب الطاهرة ، شبيهة القيامة العراقية المنتظرة ، التي أعلن بها العراقيون رفضهم لحالة الركود والبلادة المزمنة التي أصابت عقول من تسيّدوا مقاعد الحكم في بلادهم وهُم ليسوا سوى كائنات طفيلية إستمرأت العيش على المخلّفات من غير أي إعمالٍ للعقل الخلّاق المنتج.
سيكون لهذا الحراك الثوري المعمّد بالدماء الطاهرة نتائج آنية حاسمة على صعيد إعادة تشكيل الخارطة العراقية على كلّ الأصعدة ، تلك حقيقة لاأظنّ أحداً يمكن أن يشكّك فيها ؛ سأتناول في المحاور التالية بعضاً من النتائج غير المباشرة وغير ذات الصلة بالآلة الحكومية أو بمفاعيل الحكم على الأرض بل بإعادة هيكلة البنى التحتية للواقع العراقي المتهرّئ بفعل السياسات الحمقاء التي سار حاكموه - أو الأصح المتحكّمون في شؤونه والذين جاؤوا في غفلة من زمان شديد الرداءة - على نهجها الصدئ :-
أولاً - آن لحفلات التيوس المتصارعة أن تنتهي إلى زوال نهائي: لعلّ قدر العراق - وأقبِحْ به من قدر ظالم ومظلم - أن ينتهي إلى قعر مستنقع آسن غابت فيه كل مباهج الحياة المبدعة وماعُدنا نشهد فيه سوى حفلات تيوس تتصارع على خيرات العراق وأمواله المستباحة في لعبة مستقبحة أبطالُها مجاميع من كائنات سادية لاتعرف سوى لغة القتل الغاشمة . آن الأوان لتلك الطفيليات الشرهة شبيهة الديدان الشريطية التي لاتعرف الشبع أن تقبر إلى الأبد إنقاذاً للعراق وشعبه ورحمة بأجياله المستقبلية.
ثانياً - ثمة حكومات تصنع الحياة لشعوبها ، وأخرى تُفسِدها : تكتظّ أدبيات التنمية البشرية وأفكار ومقترحات الإزدهار الاقتصادي للأمم بأبجديات السياسة الحكومية المفضية إلى تحقيق الأهداف المطلوبة ؛ غير أنّ تلك الأدبيات موجّهة عادة إلى حكومات تحترم شعوبها وتؤمن بأسبقية العلم والتقنية في تحقيق الأهداف الإنسانية التي صارت مؤشرات مرجعية يعمل كلّ حكم رشيد على هديها . هذه أبجديات معروفة لكلّ ذي عقل رشيد ؛ غير أنّ القابضين على ناصية الحكم في العراق ( الديمقراطي الجديد ! ) لايفهمون هذه المرجعيات التنموية ؛ بل يسعون عوضاً عنها لتخليق نموذجهم الثيوقراطي الخاص الذي يقتل الحياة بدل أن يرتقي بها ، وأرى أن الوثبة القياميّة العراقية الأخيرة المعمّدة بالدم الطهور الذي أريق غدراً وغيلة إنما كشفت أمامنا - وبعيداً عن أي تشكيك - الكثير من الخصائص الفاسدة التي صارت سمة لأفراد الطبقة الحاكمة والمتحكّمة بمصائر الناس في عراقنا المكلوم ، وفي مقدّمة تلك الخصائص أنّ هؤلاء الحكام مجبولون على قتل كلّ روح خلّاقة ووأدها في مهدها ؛ فهُمْ يتفنّنون في إصطناع الوسائل التي تميت الروح والعقل وتجعل الناس هياكل خاوية يسهل السيطرة عليها عبر شتى وسائل التجهيل التي يظنون أنهم يبرعون فيها في الوقت الذي تظهر غباوتهم الشاملة.
ثالثاً - النظام السياسي المتلفّع بثياب الديمقراطية الزائفة إنما هو نظام شمولي ثيوقراطي يعادي العلم والتقنية ويتفنّن في صناعة التجهيل : إنّ واحدة من أهمّ الخصائص الرابطة التي تلمّ شمل النظم السياسية المحكومة بواحدية اللون والرؤية الآيديولوجية ، وكيفما تلوّنت أطيافها ، هي عداوتها المتطرفة لكلّ وسائل التواصل والإتصال الحديثة، وأحسبُ أنّ كل تطوّر تقني ثوري يحصل في هذه الوسائل إنما يكون بمثابة نذير خطر لدى هؤلاء الذين هيّأت لهم الأقدار العمياء وتوجهات السياسة الأميركية المهووسة في القرن الأميركي الجديد مقاليد السلطة في العراق الجريح . ليس صعباً أن نفهم السبب وراء هذه الكراهة المستفحلة إزاء التقنيات التواصلية الثورية : هي كراهة مزدوجة تسير في مسارين متعاكسين ؛ فهم لايريدون أن تنفتح كوّة يطلّ منها العراقيون على المتغيرات الكبرى التي تعصف بالوجود البشري كلّ يوم وعلى كلّ الأصعدة ، وفي الوقت ذاته هم لايريدون للآخر الإطلاع على حقيقة مايجري على أرض الواقع العراقي المتفجّر بالمطالبات المتواترة لتحقيق حياة كريمة تليق بإنسان عصرنا حتى وإن جاءت في أدنى المستويات التي تواضعت عليها الأمم والشعوب المتحضرة ؛ لذا صار قطع شبكة التواصل العالمية ( الإنترنت ) ، أو تقليل سعتها وكبح سرعتها ، إجراءً قياسياً روتينياً تهرع إليه السلطات المرتعبة من سطوة الشعب عند كل احتجاج شعبي . لكن إلى متى ستواصل السلطات الكهنوتية المتخصصة في تكريس التجهيل ،ممارسة هذه اللعبة السمجة؟ ألا تعلم تلك السلطات أنّ التقنية المتطورة تتخطى كلّ آيديولوجيات المنع والحجب ؟ ألم يسمع هؤلاء بأسماء أناس عظام من أمثال ( إيلون ماسك ) ، أو شركات كبرى من أمثال ( غوغل ) يعملون على جعل خدمة الإنترنت عالمية مجانية فضائية تستعصي على كلّ محاولات الحجب مثل حال البث الفضائي التلفازي ؟ حقاً إنّ التقنية تصلح ماخرّبته الآيديولوجيات الفاسدة .
رابعاً - الحكم الرشيد يتقاطع مع الأنساق اللاهوتية : معروفةٌ بالطبع تلك القرون الصراعية التي شهدت إحتراباً فكرياً عظيماً بين العلم في بواكيره الأولى وبين الأنساق اللاهوتية الممثّلة في المؤسسة الكنسية والأنساق اللاهوتية الراسخة ، وقد خسر الكثير من العلماء حياتهم - أو حرّيتهم في أقلّ التقديرات - ، وتطلّب الأمر قروناً من النضال الفكري حتى بلغنا حالة حصل فيها - في الغرب بخاصة - نوعٌ من الإعتراف بفصل الأدوار بين الأنساق اللاهوتية والأنساق العلمية ، وتطوّر الأمر حتى بلغنا مرحلة الدولة المدنية المحكومة بقوانين إنسانيّة تُعلي الشأن البشريّ بعيداً عن التصوّرات الأخروية .
ليس ثمّة من إمكانيّة للتعايش القسريّ بين العلم والحداثة من جهة والمواضعات اللاهوتية من جهة مقابلة، وهذا هو أحد قوانين الحياة المعاصرة لدى الشعوب التي تتبنى الحداثة والعقلنة والإرتقاء الحضاري المستديم .
خامساً - السقوط الرمزي لهيمنة بيوتات اللاهوت الفقهي القديم : عكست أيام القيامة العراقية نمطاً غير مسبوق في الفهم العميق ،لدى الشباب اليافعين بخاصة، لأخدوعة القداسة الرمزية المفترضة في بعض البيوتات التي إحتكرت السيادة اللاهوتية وجعلت منها وسيلة للتكسّب الطفيلي والمرابحة القبيحة . حقاً إنّ المرء ليتيه عجباً بهذا المستوى الرفيع من الوعي لدى شباب كنّا نتصوّر - واهمين – أنّهم صاروا آلات مسيّرة تنصاع لخدمة اللاهوتيين من جانب وتنصرف للهو بالألعاب الالكترونية من جانب آخر ؛ وإذا بنا نُفاجأ بالحقيقة الباهرة التي كشفت عن شباب يريد عيش الحداثة حتى أقصى تخومها وبكلّ تمظهراتها بعيداً عن المقيّدات اللاهوتية التي فرضها الأسياد ممن استولوا على حقّوق الناس ومصائرهم من غير وجه حقّ .
سادساً - العراقيون ليسوا كتلة بشرية متنافرة ومتخاصمة ومجبولة على الخنوع والإنقياد للحُكّام : شاعت كثيراً تلك المقولة المنسوبة للراحل الملك ( فيصل الأول ) التي ترى في العراقيين كتلة غير متجانسة من أفراد يلعبون فيما بينهم لعبة تنافسية قاسية أساسُها الإستئثار بالمغانم المتاحة بصرف النظر عمّا يترتّب على هذه اللعبة من تبعات خطيرة . إنّ نقد هذا النموذج السوسيولوجي العراقي يتطلّب حيّزاً لاتسعه هذه المقالة ، وسأكتفي بالقول إن هذا التوصيف قد يكون صحيحاً في بعض جوانبه إذا ماقصرناه على طائفة التجّار والأثرياء وبعض سليلي البيوتات المنتفعة من السياسات التركية والبريطانية وكذلك المقاولين المنتفعين من العقود الحكومية التي جاء بها الريع النفطي ؛ غير أنّ معظم أفراد الشعب العراقي المنزّهين عن التقاتل والمغالبة في سبيل المصالح المالية هم أفراد طيبون متوازنون سايكولوجياً وبعيدون عن الرذائل الطائفية والمصلحية الضيقة ، وتظهر خصالهم الطيبة المتجذرة عبر تضامنهم المدهش في الشدائد التي تحيق بعراق يحبونه ويسعون لرفعة شأنه مثل كلّ الأمم المتحضرة .
سابعاً - سقوط أمثولة المثقف العراقي الذي يركن إلى السُبات وقت الأزمات : لستُ هنا في وارد الحديث عن نموذج المثقف العضوي أو غيره من التوصيفات ؛ لكن بماذا يسوّغ أغلب الذين صاروا يُعدّون أسماء ثقافية مكرّسة في المشهد الثقافي العراقي أفعالهم وهم يتقصّدون النأي عن الإنغمار في أتون المحرقة العراقية التي تغذيها دماء شهداء مغدورين ؟ وماذا تغني منشورات فيسبوكية بائسة غارقة في النبرة الحيادية التي تقبل ألف تأويل حدّ أنني أخال كاتبها قد أعاد قراءتها عشرات المرّات وأعمل فيها الشطب وإعادة إنتقاء المفردات مخافة سوء تأويل من بعض ديناصورات السياسة أو أسياد الكهنوت ؟ هل تخافون أيها السادة ؟ حسناً ، الخوف سمة سايكولوجية يمكن تطويعها ببعض أدوات الثقافة والتدريبات الذهنية التي أحسبُ أنكم تملكونها وتجيدون فنون التعامل معها ؛ فإذا كانت المقتلة الغادرة التي لقيها شباب بعمر الورود اليانعة التواقة لحياة مديدة لم تحرّك فيكم بعض دماء النخوة والشجاعة ، فمتى ستنهض النخوة فيكم إذن ؟ متى ستنتصرون لعراقكم المكلوم وتعلنون المواقف الحاسمة ؟ . بئس حياة يعتاشها صاحبها - كما الطحالب الهائمة على سطح المستنقعات الآسنة - وهو لايجرؤ على دفع بعض تكاليفها المستوجبة عندما تحين الساعة الحاسمة .
تقول أمثولة إنجيلية في وصف المحايدين ( لأنّك فاترٌ ولستَ حاراً أو بارداً فقد عزمتُ أن أتقيّأك من فمي ) ، وقد برهن الكثير من المثقفين والفنانين والمطربين العراقيين المحسوبين نجوماً على حياديتهم المعيبة بتعليقات خجولة تعتمد أساليب المناورة والمخادعة ، وقد حان الأوان لكي يتقيّأهم العراقيون بغير رحمة .
ثامناً - أيها العراقي الجسور ، لامرجعية لك سوى ذاتك الحرّة : سيعمل عصر القيامة العراقية على تعزيز فردانية الكينونة العراقية وتحريرها بالنتيجة من سطوة الأنساق الفكرية الشمولية والمرجعيات اللاهوتية بسبب تعدّد وسائل محاكمة الأفكار من جوانب عدّة وتغيّر مفهوم الدولة في نطاق المدّ العولمي الجارف ؛ إذ باتت الدولة أقرب لمركّب تقني يُراد منه توفير الأمن والخدمات وتعزيز فردانية الأفراد وقدراتهم الإبداعية واستبعاد كلّ مايقيّد تلك القدرات ،من جانب ، والتخلّي عن دور ( الأب الآيديولوجي ) الذي يحدّد مسارات الأفراد في محيط بطريركيته الآيديولوجية . إنّ عصر مغادرة المرجعيات الآيديولوجية واللاهوتية المقيّدة للفعل البشري الحضاري هو حقيقة نشهدها اليوم على الأرض ، وهو فرصة يمكن لنا أن نوظّفها في إحداث نقلة حضارية نوعية في عراقنا الذي سينهض من رماد القيامة المنتظرة .
* * * *
بوركت الدماء المقدّسة التي أهدرها القتلة السفّاحون وأرادها مفسدو عراقنا أن تظلّ مخفية وراء حجُب سميكة ؛ لكنّ صانعي الحياة الجميلة في عراقنا المُعافى القادم لامحالة سيكشفونها للملأ ولو بعد حين لاأحسبه سيطول كثيراً ، وحينها فحسب سيكون في مستطاعنا الإنطلاق في مسيرة الحداثة بعد أن خسرنا الكثير من فرص التنمية الحقيقية بفعل حماقة الحكّام وغباوة الآيديولوجيات وتسلّط قيم النكوص والجهالة .
اترك تعليقك