حارث حسن
يفهم السيد عادل عبد المهدي أن جزءاً كبيراً من الأزمة الراهنة يتعلق بالسياسات التوزيعية للريع، فقد بلغت اللامساواة الاقتصادية مستويات غير مسبوقة،
وشهدت السنوات الأخيرة ظهور طبقة سياسية-ميليشياوية-تجارية ازدادت ثراءً على نحو فاحش، بينما اتسعت الشريحة التي تعيش تحت أو بالقرب من خط الفقر -في مجتمع يزداد عدد أنفاره مليوناً كل عام- ، مع ارتفاع مضطرد لمعدلات البطالة في وسط الشباب (٦٠٪ من العراقيين هم تحت ٢٤ عاماً، يدخل نصف مليون منهم سوق العمل سنوياً) .
مايحاول عبد المهدي عمله منذ اندلاع الاحتجاجات، هو اجراء "تصحيحات" سريعة على السياسة التوزيعية لإرضاء بعض الشرائح المحسوبة على القطاع المجتمعي الغاضب أو المتضرر (كما في النموذج أدناه)، وعبر إصدار قوائم تعيينات حكومية جديدة، وتوزيع لرواتب وإعانات على شرائح أخرى. الهدف واضح: امتصاص غضب أكبر عدد ممكن من الناس على أمل أن يقلل ذلك من حجم التظاهرات ويعطي أملاً للمحتجين بان الإصلاح صار ممكناً. لكن الاقتصادي والمنظر عادل عبد المهدي، يعرف جيداً أن هذه الحلول ترقيعية، تضخيم القطاع العام وتوسيع جيش الموظفين ومتلقي الرواتب الحكومية لن يحل الإشكالية على المدى الطويل، فكيف سيجري تسديد رواتب مجزية لكل هؤلاء من ميزانية حكومية تذهب معظم مواردها أصلاً على المصاريف التشيغيلية، والأهم، ما الذي سيتم فعله مع مئات الآلاف ممن سيدخلون سوق العمل في العام المقبل؟ يعرف عبد المهدي ، وهو الذي كتب عن مخاطر الدولة الريعية وتضخم القطاع العام، أن هنالك مشكلة بنيوية لايمكن حلها بهذه الطريقة ...
المشكلة هي في إصراره على تصور أن بالإمكان اعادة رسم السياسات التوزيعية وتوسيع الشرائح الاجتماعية القانعة بالوضع القائم دون التعامل مع الإشكاليات الأساسية المتعلقة بشكل الدولة، وبهيمنة الاقطاعيات السياسية عليها، وبطبيعة المنظومة الحزبية-الميليشيوية التي تديم نفسها عبر موارد تلك الدولة، وبعلاقات التخادم القائمة بين الطبقتين السياسية والمالية-التجارية، وبنظام انتخابي تمت برمجته ليعيد انتاج سلطة تلك المنظومة وممارساتها.
قبل عامين وبعد رجوعي من زيارة لبغداد سألني بعض الزملاء غير العراقيين ما الذي لفت انتباهي أكثر شيء في بغداد ولانسمع عنه في الإعلام، كان جوابي: التفاوتات الاقتصادية الهائلة.
الآن وقد ارتبطت هذه التفاوتات بوجود وديمومة نخبة طفيلية، رثة، تعتاش على مقولات غيبية، وشرعيات مستعارة، فان الحركة الاحتجاجية ومحركاتها صارت أكبر من مطلب أفراد غاضبين برواتب ووظائف، صارت نزعة راديكالية للتخلص من منظومة (سياسية ، اقتصادية، ثقافية، وعنفية) كاملة، يصعب على الاجراءات الصغيرة لعبد المهدي أن تتعامل معها...
حتى الآن، تجنبت أن أعبر عن موقف مع أو ضد الاحتجاجات، لأنني أعيش خارج العراق ولا أرى أن لي الحق كي أدعو من هم في الداخل الى الاحتجاج او عدمه.
لكن دعوني أقول إن مشاهد مشاركة الطلبة اليوم في الحركة الاحتجاجية، سواء بوقفاتهم الاحتجاجية في الجامعات أو المدارس، أو بذهابهم الى الساحات، اعطتني أملاً كبيراً. إنها ولادة لمجتمع مدني جديد، متحرر من سطوة الجيل القديم ، غير مسكون بمخاوف وعقد الماضي، ويريد أن يصنع قدره بنفسه.
هؤلاء الشباب بتلقائيتهم يهزمون سردية المؤامرة، ويضعون الطبقة الكهلة - فكراً وعمراً - أمام أكبر تحدٍ لها. لقد خسرت "الشيعية السياسية" هيمنتها الثقافية، ولم يعد أمامها سوى الايغال في استخدام أدوات العنف والتخوين.
شيءٌ جديدٌ يولد ، ولن يتمكنوا من تحديه بأدواتهم ولغتهم العتيقة. كأنها مواجهة تزداد وضوحاً بين الماضي والمستقبل .
اترك تعليقك