جعفر هادي حسن.. لا  عشيرةً  تُرثيه!

جعفر هادي حسن.. لا عشيرةً تُرثيه!

رشيد الخيُّون

ربَّما سبقنا جعفر هادي حسن(1941-2019) وفسر الإحجام عن رثائه مِن قبل زملاء له، وفي المجال نفسه، عندما سئل عن عالم المثقفين:

"بصورة عامة علاقة تتحكم فيها المصلحة والأيديولوجيا، فأنت ترى، مثلاً، أصحاب المصلحة المتبادلة يرتبطون ببعضهم أكثر من غيرهم، وأصحاب الاتجاه الآيديولوجي الواحد هم أشد ارتباطاً وعلاقة وأكثر تقارباً ومنافعة".

إذن يندر وجود اعتراف خارج الانتساب لحزب أو جماعة ولنقل إنها الشُّللية. نعم، هناك عرب اهتموا بالدراسات اليهوديَّة، وذاع صيتهم، ليس بسبب التمكن العلمي، فإذا كان الأمر كذبك فجعفر هادي حسن أولى بالتمكن العلمي والبحثي أيضاً. سألني يوماً أحد المثقفين العرب، أنه لا يوجد بالعراق مَن ذاع صيته أو أثر في الثقافة، مثلما الحال مع المصريين وأهل الشَّام مِن لبنانيين وسوريين وسواهم، فكان جوابي: إن هؤلاء الذين تسأل عنهم أعلام مرفوعة، لكنهم ربَّما لا يجيدون التسويق لأنفسهم، فهل نريد مِن المؤرخ والبحاثة جواد علي(ت1987) ينسق مع التلفزيون والصحف مِن أجل مقابلة مثلاً، أو دعوة لمؤتمر ثقافي، يُقام عادة على العلاقات العامة والشُّليلية الثَّقافيّة، أو يبحث عن منح جائزة بنفسه؟

عندما انتقد مصطفى جواد(ت 1969) عباس محمود العقاد (1964)، وصحح ما وقع فيه مِن أخطاء، قامة القيامة على مصطفى جواد وهو المؤرخ والمحقق واللغوي، ووقف معه كبار مثقفي العراق حينها من سالم الآلوسي(2015)، وحسن أمين(ت2013)، وشخّصوا الحقّ مع جواد في ذهب إليه مِن نقد، وليس هناك مَن هو فوق النقد، سواء كان العقاد أو غيره، وكأن الذي هبوا ضد ناقد العقاد لا يعرفون أن بالعراق أعلام وأساتذة في البحث والثَّقافة، وفي المجالات الفكرية كافة.

تنبه محمد مهدي الجواهري(ت1997) إلى تلك الظاهرة، في قصيدته "إلى السَّعب المصريّ"(شباط/فبراير 1951)، وكان مدعواً مِن قِبل وزارة المعارف والحكومة المصرية، بعد أن فاجأت قصيدته "قف بالمعرة"(1944)، طه حسن(ت1973)، فإنطبع بذهنه رسم الشَّاعر وشعره. أقول تنبه الجواهري فقال معاتباً المصريين، الذين وجدهم كأنهم لا يعرفون مَن ببغداد وكوفة والبصرة، وقد أصبحت الدُّنيا عبارة عن قرية، وهم لا يعرفون أبعد مِن محيطهم مِن إبداع:

"يا مصرُ: لاءمت البسيطةُ شملها/ فالكون أصغرُ والمسافةُ أقصرُ/ وتلاقت الدُّنيا فكادَ مشَّرقٌ/ مِن أهلها بمغربٍ يتعثرُ/ويُكادُ بيتٌ في العِراق بجذوةٍ/ مضرومةٍ في تيبتَ يتنورُ/وهنا يكادُ بمصرَ يسألُ أهلُها/ هل في العِراقِ أعاجمٌ، أم بربرُ؟/ ويكادُ يُجهلُ أنَّ بغداداً بها/ كانت يدُ الدُّنيا تطولُ وتقصرُ/ أو أنَّ كوفاناً وبصرةَ منهما/ كانت إلى الأُمم الحياة تُصدرُ/ أيكون عُذر الجهل أنَّ عمومةً/ أغنى، وأنَّ بني أخيها أفقرُ/ أو أنْ تضيقَ بخنِصرها راحةٌ/ إذ كان أصغرَ ما تضمُ الخنصرُ"(الدِّيوان). أرى ما نبه إليه الجواهري قبل ثماني وستين عاماً، قد تكرر مع غياب جعفر هادي حسن، مع أن موضوعه ليس محلياً إنما عربياً وأوسع مِن ذلك.

فمِن العادة، تتأثر الثَّقافة بمنطقتنا بما يحيط بها مِن غيتوات حزبية وعشائرية ومناطقية، هذا ما لفت نظرنا إليه رحيل الباحث جعفر هادي حسن، مع أنه يُعد أحد أبرز الكُتاب والباحثين في الشأن العبري واليهودي، وما علاقة ذلك بالإسلام والشَّرق ككل، وله دراسات فريدة مِن نوعه، وفق اختصاصه الذي سخر له الشوط الأكبر مِن حياته، إلا أن فقدانه، بعد مرضٍ عضال، لم يحرك مثقفاً أو باحثاً في هذا المجال أو غيره أن يقول فيه كلمة رثاء، أو تذكير بجهوده الفذة في عالم البحث والثقافة بشكل عام.

فجعفر هادي حسن لم ينتمِ لحزب أو زمرة ثقافيَّة محددة، فلا هو بالشَّاعر ولا الروائي ولا المتسلق ثقافياً عبر العلاقات العامة، التي كثيراً ما تنتج أسماءً، وبالجملة ليس له عشيرة ثقافية أو سياسية ترثيه. فربَّما كان الرِّثاء اليتيم الذي صدر مِن منظمة الأكاديميين العراقيين بلندن، وهو ما نشرته على حياء بعض الصحف العربية، مِن دون أن تُكلف المحررين، ليظهروا ما لدى الرَّجل مِن عِلم وفير.

صب جعفر هادي حسن جل اهتمامه على الدراسات اليهوديَّة، مع أن بدايته الدراسية كان اللغة العربية، حيث تخرج مِن جامعة بغداد، وأخذ الماجستير في موضوع "الكسائي وجهوده في النحو"، إلا أنه كان تواقاً إلى التخصص النَّادر عربياً، وذلك في مطلع السبعينيات، من القرن الماضي، فوصل بريطانيا كي يبدأ الدراسات العليا في المجال الذي تتوق له، لكن جامعة مانشستر طلبت أن يبدأ مِن البكالوريوس كي يتخصص بهذه الدراسة فبدأ مِن جديد، حتى الدكتوراه.

كنت أتابع بحوثه في صحيفة "الحياة"، التي تصل عدن، في الثمانينيات والتسعينيات، فلفت نظري أسلوبه المميز في الكتابة، والموضوعات التي يطرحها، حتى كنت معه وجهاً لوجه في مكتبة جامعة بلندن، فسألته عن اهتمامه في هذا المجال، فقال كانت العربية اهتمامي الأول، لكن وجدت كباراً فيها، كأساتذته مصطفى جواد(ت1969)، وإبراهيم السَّامرائي(ت 2001)، فشدته دراسة اللغات الشرقية، وفي مقدمتها العبرية، ليتخصص كليةً في مجال الدراسات اليهوديَّة، وقد برع فيها حتى اعتمدت عليه موسوعات في كتابة مواد فيها، مثل "الموسوعة الإسلاميَّة".

مرَّ جعفر هادي حسن على الحياة الحزبيَّة بالعراق، وكونه ابن النَّجف، من نشأة الحراك الإسلامي الدَّعوي، مال في هذا الاتجاه، ودخل في حزب الدَّعوة الإسلاميَّة، وكانت في بيته مطبعة الحزب، التي جلبها خطيب المنبر الحسيني الشَّيخ أحمد الوائلي(ت2003) مِن الكويت (عن المطبعة ورد خبرها في أمالي السَّيد طالب الرفاعي). كان ذلك الانتماء في شرخ الشَّباب، وسرعان ما ظهرت له إشكالية مزج الدِّين بالسِّياسة، واكتشف الواقع المخالف للشعارات داخل الحزب، فألتفت إلى عالم البحث والدِّراسة، وكان قد سبق كل الذين ظهروا بعد (2003) قادةً وكوادر.

غير أن هذا الحزب ولا غيره لم يسأل عن باحث مثل جعفر هادي حسن، لإدارة مركز بحوث مثلاً أو رئاسة جامعة، وبالتأكيد، وحسب ما سمعته منه في آخر لقاء معه، أنه لم يبق متفقاً مع الحزبية الإسلاميَّة بشيء، وأنه مع التوجه المدني. بينما صار معمماً لا يملك شهادة دراسيَّة مستشاراً ثقافيَّاً لرئاسة الوزراء، ورئيس أمناء جامعة.

عندما طُرح موضوع مراجعة الأرشيف اليهودي العراقي، الذي وصل إلى واشنطن، اختير جعفر هادي حسن مراجعة الأرشيف، لإعادته إلى العراق، لكن معركة على منافع الإيفاد أبعدته مِن الأمر، وما كان له مزاج التنافس مع جهلةٍ بهذا الموضوع وغيره تماماً.

جعفر هادي حسن كائن علمي، لا يشذ عن اختصاصه، الذي يعرف فيَّه، وإن تناول الشَّأن السِّياسي فهو من داخل اختصاصه في الدِّراسات اليهوديَّة. نور باحثنا المجتمع العربي بأدق تفاصيل القضايا اليهوديَّة، متحدثاً عن النزاع بين الفِرق داخلها، وبين يهود متدينين ويهود علمانيين، بين يهود صهاينة ويهود لا يعتقدون بالمشروع السِّياسي لليهودية، والمتمثل بدولة إسرائيل والحركة الصّهيونيَّة.

كان كتاب "الدُّونمة بين اليهوديَّة" والإسلام أول مؤلفات جعفر هادي حسن، وفيه قصة المرتد عن الدِّيانة اليهوديَّة إلى الإسلام بالاسم، ضمن ظروف الدولة العثمانية، وقصة ظهور المخلص، وهي قصة لفرقة مثيرة في فكرتها وحراكها آنذاك. بعدها صدر له كتاب "القرائين" أو "تاريخ اليهود القرائن منذ ظهورهم حتى العصر الحاضر"، وأول منشئ لها هو عنان بن داود في زمن أبي جعفر المنصور(ت158هـ)، وفكرتها أن يُصار إلى الاعتماد على التوراة وترك التلمود، والتعاليم التي وردت فيه، وهذا بحد ذاته يُهتبر ردةً عن اليهوديَّة.

بعدهما صدر له كتاب فرقة "اليهود الحسيديم"، التي ظهرت في القرن الثَّامن عشر، وجوهر دعوتها تركيز اليهودي على سعادته و"اعتبر الصوم مسببا للحزن والكآبة، ولأنه ركز على السعادة والفرح، أصبحت الموسيقى والغناء والرقص جزءاً حقيقياً من حياة هذه الفرقة"(عن المؤلف).

تابع في كتبه: "القبائل اليهودية العشر الضائعة والأسطورة والتَّاريخ"، وفي كتابه "فرق يهوديَّة معاصرة"، و"قضايا وشخصيات يهودية"، تاريخ وحاضر الفرق اليهوديَّة المختلفة، والتي كل منها تعتقد أنها أبناء إسرائيل الأُصلاء، من يهود اليابان إلى اليهود السود بأمريكا، والفلاشا بأثيوبيا، والفرق والشَّخصيات التي لا تتفق مع إقامة دولة يهوديَّة.

هذا ليس كل ما أنتجه جعفر هادي حسن، له بحوث كثيرة باللغتين العربية والإنكليزية، لم يسعفه الوقت كي يصدرها كتباً، فقد قضى السنوات الخمس الأخيرة من حياته في نزاع مع المرض، ومع ذلك كان مملوءً بالتَّفاؤل أن ينتصر على مرضه، ويعود إلى بحوثه ونشاطه العلمي، لكنَّه أُخذ بقول أبي الطَّيب المتنبي(قُتل 354هـ): "وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً/ تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ"(الدِّيوان، أيْنَ أزْمَعْتَ أيّهذا الهُمامُ؟)، بعد أن أنهكه الدَّاء والدَّواء معاً، أما عدم الانتماء ليسار أو يمين فهذا ركن قوة فيه كونه باحثاً، ولتهتم العشائر الثقافية بمنتسبيها، وتترك مَن لا عشيرة له.

تعليقات الزوار

  • د مهند محمد صبري البياتي

    مع الاسف هذا ليس بجديد على الاخوة المصريين، فغالبية مثقفيهم لا يعترفون بالمتنبي كشاعر عظيم، بسبب ابيات كتبها عنهم عند هجاءه لكافور الإخشيدي فما بالك بالاخرين من شعراء وفنانين وملحنين، ولكن وكما ذكرت العراقيون لايجيدون التسويق لانفسهم

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top