العمود الثامن: السياب يفرح أخيراً

علي حسين 2019/12/24 09:41:17 م

العمود الثامن: السياب يفرح أخيراً

 علي حسين

لن يعاتب عاشق وطَنَه بمثل ما عاتب السياب: 

البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون..

والبحر دونك يا عراق

ولن يتآخى شاعر مع العراق، مثل السياب الذي حول مرضه وغربته إلى قصائد في حب الوطن "الشمس أجمل في بلادي من سواها.. والظلام حتى الظلام هناك أجمل". 

لم يكن بدر يُدرك أنه سيحزن القرّاء لقصائده التي أرادها في بداية حياته مثل نبوءة تؤذن بعصور الخراب، ومثلما نتأمل في مراراته وأحزانه وذكرياته، نتذكر تلك القصائد التي زيّن بها الشعر العربي، نتذكر ذلك الفتى النحيل الذي حطّ الرحال من البصرة، قاصداً دار المعلمين العالية ليلتقي بنازك الملائكة، ولميعة عباس عمارة وبلند الحيدري ومن بعدهم عبد الوهاب البياتي، الشاب الذي جاء يحمل فقر الحال وغنى الأمنيات ليصوغ منهما صورة لوطن جديد، بوسع الآمال اسمه العراق، وحلم أن لا يعيش غريباً على الخليج.. وأن لا يصرخ سدى.. عِراقُ، عراقُ .

بدر كان مغرماً بما يكتب، يعتقد أن الفكر والشعر سيصنعان بلداً يكون ملكاً للجميع، ومجتمعاً آمناً لا تقيّد حركته خطب وشعارات ثورية، ولا يعبث باستقراره ساسة يتربصون به كلّ ليلة.. ديمقراطية، تنحاز للمواطن لا للطائفة، وتنحاز للبلاد لا للحزب والعشيرة. عاش السياب أسير أحلامه، متنقلاً في الشعر والحب والمرض، لينتهي وحيدا يئن على بلاد يراد لها تُنكر أبناءها لأنهم لا يحملون صور قادتها ، ولا يهتفون لهم في الساحات.

مات السياب وفي عينيه عتاب، فالبصرة استولى عليها البعض ممن يفرضون كثيرا من الكآبة على الحياة معززين ثقافة الظلام، يبددون الأمل ويحاصرون التفاؤل، يأمرون الناس بالكف عن ممارسة الفرح الذي لم يعد مهنة العراقيين بعد أن سادت مهن جديدة مثل العصابات وأمراء الحرب الطائفية والسراق، وكل هؤلاء يتبارون في كيفية ذبح السعادة والفرح ووأدهما في مقبرة الظلام.

اليوم وبعد اكثر من نصف قرن على رحيل شاعرها ، نجد البصرة تعيد البسمة الى وجه السياب الحزين، حيث شبابها ثاروا على رعونات السياسيين وانتهازيتهم وسرقتهم لأحلام الناس وأرزاقهم.

أفاق الساسة في البصرة وبغداد وميسان وذي قار والسماوة وكربلاء والنجف والديوانية ليروا الشباب واقفين في الساحات يتحدون الغطرسة والمليشيات وكواتم الصوت وتفاهة خطب عادل عبد المهدي.. ويرددون مع السياب: "عراق، عراق، ليس سوى عراق"، شباب رائعون ومبهرون ومذهلون، كانوا مثل الضوء الذي اندلع من العتمة، ليبلغوا العالم أجمع أن العراق لن يموت.

رحل السياب، لكن وصيته لا تزال حاضرة في نفوس العراقيين : 

خير البلاد سكنتموها بين خضراء وماء..

الشمس نور الله، تغمرها بصيف أو شتاء لا تبتغوا عنها سواها

هي جنة فحذار من أفعى تدب على ثراها .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top