عِش دون وقت ميت .. فيلم

عِش دون وقت ميت .. فيلم

علي الياسري

كانت نقطة رابعة أضافها المخرج ليندساي أندرسون على عنوان الفيلم، لكنها حملت إضمار الدخول الشرطي لعبارة الافتتاح السابقة له والمستقاة من سفر الامثال الرابع. اشتراط يندفع من وجوب إظهار الطاعة كسبيل ولوج للحكمة ثم للفهم.

اندرسون أضافها متقصداً على نقاط علامة الحذف الثلاث كفعل تمرد أول للفيلم حيث ردد شخوصه الشباب كلمات التغيير.

العام 1968 ليس زمن إنتاج الفيلم فقط، ففي تلك الزاوية من التاريخ وبذلك العالم كان الأمر أشبه بعيش اللحظة الفارقة. من باريس حتى سواحل العالم الجديد نشأ جنون حرية وتمرد ليتأصل مع الوقت نبرة ثورة فريدة، صار بإمكانك صنعها بمزيج الخيال والواقع، وفي أي مكان بالعالم. في ذلك الزمن ساد إحساس رائع ينتشي به عنفوان الشباب وهو أن كل ما تفعله صواب. شعور بالنصر الحتمي على ما وسموه بقوى تقليدية متشيطنة. كانت لذة الأشياء تكمن في استعراضها حيث ارتقت الحشود الصاخبة بجمال الشارع على قمة موجة آخاذة من الثورية الراديكالية لكافة أنماط الثقافة والتعبير وأسلوب العيش بسياقها المجتمعي. 

اندرسون رائد السينما الحرة والتي رفع من خلالها شعارات سينمائية مثل (الكمال ليس هو الغاية. ويمكنك صنع الشعر بكاميرا 16 ملم) تسعى لكسر هيمنة التقليد المؤسساتي في الصناعة السينمائية البريطانية. ليندساي قدم حفنة قليلة من الأفلام الروائية الطويلة أشهرها ثلاثية (مايك ترافيس)، بسبب كونها كانت ولازالت راية ثقافة مضادة تحاول كسر القوقعة التي حٌشر فيها المجتمع البريطاني على أساس الالتزام بالتقاليد. 

كان فيلم (إذا....) صرخة رائدة سينمائياً ضد الدم البارد للمؤسسة الحاكمة. رد فعل على الاستبداد باشكاله المختلفة (التعليمي وأساليبه القديمة الصارمة، السياسي، العسكري، والديني). صورة سريالية لأستنزاف وجودي يحاول سحق الكينونة الآدمية ومواضع الشعور الفردي لحساب الانصياع وسياسة القطيع. 

الميزة الأكبر للفيلم إنه ليس عن الثورة بحد ذاتها بقدر ماهو يطرح كل الأسباب المؤدية إليها والتي تتجمع مثل قطرات حتى اللحظة التي تفيض فيها الكأس. (إذا....) مأخوذ عن فيلم قصير من العام 1933 اسمه (صفر بالسلوك: الشياطين الشباب في الكلية) للمخرج جان فيغو. يقول المخرج أندرسون إن أسلوب فيلم فيغو الشعري وليس روحه الاناركية هو الاساس في التأثير على فيلمه، والذي كان فيه (الكثير من روحنا) كما يؤكد. 

قصة الفيلم عن مدرسة داخلية عريقة تنامى فيها روح التمرد لدى مجموعة من الطلاب ضد رتابة وقسوة التعامل الذي تبديه الادارة. نموذج مصغر للحياة في المؤسسة الاجتماعية البريطانية حيث الخواء المتكبر يتنسم مجد امبراطورية منقرضة تتمسك بمزيج ارتباط لسلطة الملكية وطبقاتها ومجتمع الاكليروس. تفرض شروط وجودها القاسي بكل تجليات السحق للفكر والشعور من خلال الطاعة العمياء متماهية مع ابتسامة وعظ صفراء. شخصيات (إذا....) ليست محبطة من طبيعة الدراسة ونمط العيش فقط، بل هي ناقمة على جمود الافكار التي تتمحور حولها تراتيبة الحياة يعزز ذلك ماتقدمه المعالجة السينمائية من مقاطع الاناشيد الكنسية المفتتحة لفصول الفيلم. إطارات بصرية تتنقل من الواقع للخيال، من الابيض والاسود للألوان. فنتازيا تعكس شكل الأمة البريطانية المنكفئة على ذاتها بعد الحرب العالمية الثانية. رثاثة تدفع الطلاب للتنمر ثم لطلب حرية متزايد. حيث كان الفيلم سباقا في تقديم مشهد عُري امامي مذهل حمل عمقا يعبر فيه عن رغبة حتمية بتعرية الأمة البريطانية من ردائها البالي العتيق والدخول في جو الروح الشبابية الضاجة بحرية غير مقيدة ولازمة لبناء مجتمع جديد يحطم قبح القديم الجامد والمُجمل بمساحيق الإنضباط وروح الامة العريقة. 

احتجاج اندرسون على كل ذلك تكشفه طبيعة أفلامه حين رسم حدود صورته على شكل بانوراما اجتماعية ترصد الإحباط والغضب من واقع فاسد، ليعكسها الى نمط عيش جديد يضع امله في رد الفعل غير المتوقع، (فالثورة فعل نقي) كما يردد في فيلمه. لأن الاذلال والاستعباد وفق منطلقات الصرامة الأخلاقية في بناء المجتمع المحافظ هي بذور التمرد الذي سيأتي لاحقا. فيلم (إذا....) يقول لنا إن القمع الممنهج للأصالة والمبادرة والابداع كسلوك حضاري ديمقراطي بداعي الالتزام بالجماعة هو ترويض للفكر الحر. ذلك مغزى مشهد الكافيتريا بين ترافيس وصديقته. 

حين أدى مالكوم ماكدويل شخصية مايك ترافيس في دور بطولة أول سينمائياً كان بالتاكيد هو صورة ابتدائية لأليكس في برتقالة كوبرك الميكانيكية. ابتسامته المفعمة ووجهه المغلف ببراءة ساطعة حادة، ثم حدقاته المتسعة بعنفوان غضب وحشي تثير الفزع حين تسلط تلك النظرة المنتشية بملمح العنف المزدري. 

ما يجعل فيلم المخرج اندرسون حياً بعد خمسة عقود هو روحه الشبابية المستدامة، عندما استطاع التقاط تلك اللحظة الفارقة بين جمود التشبث بتزمت السلطة للطبقات المتحكمة وتنامي وأنفجار روح التمرد التي تتشكل في لحظات وعي مجنونه للأجيال الجديدة. وهو ذات السبب الذي جعل مهرجان كان السينمائي الدولي يمنحه سعفته الذهبية في العام 1969. فهو مليء بالأثر الخلاق لفعل الحرية غير المقيد، وما يبدو في النهاية سلوكا عنيفاً ماهو إلا نتيجة حتمية لكل تلك الشذرات البصرية التي عبّرت عن هذا التوق المتسع. فمرّة ينطلق ترافيس وصديقه على دراجة نارية مسروقة نحو فضاء طريق خارجي لايحده غير طبيعة اللقطة المنفتحة على الأفق المتحرك. وقبلها خيار ترافيس في استغلال العطلة بالذهاب للتأمل والعيش بالغابة. ثم مشهد الحرية الجسدية بينه وبين صديقته المقترن ببرية السلوك. لايمكن بعد ذلك إلا أن ترى نقمة وسخط اندرسون على مجتمعه والذي ظل يكرره في أفلامه القليلة. 

لايبحث (إذا....) عن انتصار بقدر ما هو يؤسس مواضع لجذوات الأفكار وأسلوب العيش ضمن رؤية جيل يطلب حريته وفق طبيعة عصره هو لا تزمت القديم وتعسفه.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top