TOP

جريدة المدى > عام > في ذكرى رحـيله..السياب: الاتّقاد ألماً.. الانتحاب أملاً

في ذكرى رحـيله..السياب: الاتّقاد ألماً.. الانتحاب أملاً

نشر في: 28 ديسمبر, 2019: 08:06 م

د. نادية هناوي

استلهم بدر شاكر السياب من الكينونة المؤنثة حكايات شعرية كما استمد منها مرجعيات ثقافية صانعاً نصه الشعري بأناة، مضمناً إياه تجاربه الذاتية والموضوعية. 

وقد تباينت وسائله الفنية في التعبير عن هذه الكينونة تبعا لطبيعة الموقف الذي استمد الشاعر منه خطابه نحو الآخر . ويتعالى البعد النسوي في قصائده إلى الدرجة التي فيها تحتل المرأة مكاناً متميزاً فهي تارة الملهمة والحارسة الطيبة وتارة أخرى هي الضعيفة المغلوبة والمغيبة في المجهول. وكثيرة هي القصائد التي تتغنى بالأم والجدة والبنت والحبيبة والمناضلة والمتتبع لدواوينه سيلمح هذا البعد بجلاء بدءاً من قصائد( رثاء جدتي واذكريني واليك شكاتي) من ديوان بواكير، ومرورا بقصائد ديوان قيثارة الريح ( لامس شعرها شعري وقصيدة المحبوبة وقصيدة ثورة على حواء) التي تؤدي المرأة فيها دوراً فاعلاً، وصولاً الى دواوين ( المعبد الغريق ومنزل الاقنان وشناشيل ابنة الجلبي وانشودة المطر) التي فيها تغدو المرأة عنصراً لا يكتمل النص السيابي من دونه.

وفي قصيدة (الام والطفلة الضائعة) تتمسرح المرأة على خشبة الحياة فاعلة ومهيمنة، وإذ تعكس هذه القصيدة بعنوانها الانساني أشد العلاقات حميمية على وجه الأرض؛ فإنها تخرق تلك العلاقة الحميمية بأشد خطر يداهمها وهو الضياع. وما بين الفاقد والمفقود تتجسد دلالة العنوان، فتتماهى القصيدة في إطار مؤنث، ينساح بالقصيدة دراميا من نقطة بداية محددة الى نقطة غير منتهية بنهاية. وهذا ما يؤكده البناء الزمني الذي تناوب بين صيغتي الأمر والمضارع مع بعض الفعلية الماضوية. وقد أتاح البناء السردي للقصيدة أن تتعاضد حبكتها لتوصل الى القارئ حزمة المشاعر الانسانية المبطنة باللوعة في مكابدة الضياع وجلاً من الموت:

قفي ، لا تغربي ، يا شمس. ما يأتي مع الليل 

سوى الموتى .فمن ذا يرجع الغائب للاهل 

إذا ما سدت الظلماء 

دروباً اثمرت بالبيت بعد تطاول المحل؟

ولو لم يكن السياب باحثاً تواقاً للحياة ومفتشاً نهما عنها لما كان ذلك الشاعر البار بشعره، ولما ترك لنا هذا المنجز الثر متخذا من الثقافة وسيلة يؤكد بها وعيه الشعري، والمرأة بالنسبة اليه كيان مؤثر في النص وذات فاعلة ومحورية تحتمل دلالات وقيما وعلامات، فهي التي تحفز النص نحو الاستمرار وتستفز المتلقي بشكل اعمق كي يغور في النص باحثاً عن التأويلات التي تفترضها آليات بناء الفاعلية الشعرية وبواقعية عيانية جلية، تركز على القصيدة كجسد مادي حيناً وتعتمد الخطاب الرمزي ذي الاستيهامية العالية أحيانا اخرى في ظل عالم سوداوي ليس فيه إلا الظلام والسواد والأشباح. 

وينتخب الشاعر لأجل تحقيق الدرامية الشعرية وتوصيل التجربة الأليمة الفعل الأسطوري مستعيناً بأسطورة برسفون Persephone متناصاً معها جزئياً مولداً عبرها انثيالات وتساؤلات على شكل عبارات شعرية استفهامية. وهو في القصيدة راو خارجي يستبطن الشخصية السردية دراميا مستحضرا وبشكل مضاعف فكرة الموت ضياعاً وغياباً. وتجد الأمّ في أسطورة برسفوني عزاءها، فطفلتها هي برسفون التي خطفها الوحش ولكن ام برسفون ليست مثلها فهي أقل ضنى واوهاماً، لأنها تعرف الى أين مضت ابنتها. وبقدوم سندباد وسفينته يكون الانبعاث الاسطوري قد تحقق في القصيدة، فهو الحارس والمنقذ، وتنتهي القصيدة لكن بلا نهاية موعودة بالامل وبذر الحياة في عالم كله دجى وسواد، والشاعر يظل متمسكا بالامل حتى آخر رمق .

وتستجيب القصيدة بوصفها مفردة مؤنثة لرغبة الشاعر فيلتبس دور المرأة/ الأمّ عاكساً مشاعر الشوق والتوق مازجاً خطاب الجسد بالطبيعة لتصبح الحبكة القصصية أكثر هولاً وتراجيدية.. 

ويظهر الليل دالاً مهيمناً في تجسيد المأساة وتحديد تفاصيلها وتخومها برمزية وانسياح إشاري فتتمظهر من خلاله المدلولات السلبية للشخصية المحورية وتحدث تبادلية في الوحدات اللغوية سواء أكان ذلك في بنيتها السطحية أم كان في أعماقها الغائرة والهدف من وراء ذلك توصيل التعبير الجمالي الذي يستطيع اقناع القارئ بحقيقة ما يجري.

وتتجه القصيدة اتجاها واقعيا بتخييل وشحن عاطفي عالٍ وتتوغل في الرمزية أكثر، لتنسج علاقات غيابية تصنعها العلاقة الاعم علاقة الأم بطفلتها التي هي وجه آخر لعلاقة الشاعر بقصيدته فكأنه أم أضاعت وليدتها، في إشارة دلالية الى أن هوية الشاعر تتبطن في قصة الأمّ بحثاً عن الوليدة الضائعة التي هي جزء لا ينفصل عنها .

ويتخذ من توظيف الجسد دالا في القصيدة السيابية, بحثاً عن مزيد من المدلولات المغيبة والخفية، ممارسا دور الوسيط في الافصاح عن الانثى متكلماً عنها مفصحاً عن حقيقتها، مضيفاً صوتاً جديداً إلى صوتها. والأم والطفلة كينونتان إنسانيتان إحداهما حاضرة في النص والاخرى غائبة فتتوالى الكينونة الحاضرة في رسم ربيبتها الغائبة.. ولا يتم الرسم إلا من خلال التركيز على جسد طفلتها الضائعة لتوصل الى سامعها او متلقيها مشاعرها وهول العاطفة المترتبة على فقدانها: 

هاك من لحمي 

طعاماً اه عطشى أنت يا أمي؟

فعبي من دمي ماء وعودي ..كلهم عادوا 

ولأن هذا الخطاب يقترن داخلياً وخارجياً بالجسد لذلك تبكي الأم ّضياعه ذائباً غائباً وبعيداً ..فالليل لا يأتي معه سوى الموتى فمن ذا الذي يرجع الغائب المسافر والمجهول الى الأهل..؟

وتغليب صورة الام التي ظلت في نهاية النص مفتشة باحثة هي صورة مموهة للقصيدة التي ضاعت من شاعرها، هو تغليب للمؤنث الذي هو صورة اخرى لتغليب اللغة وإن كان الدكتور عبد الله الغذامي يرى( أن تأنيث اللغة أو في الاقل انسنتها لن يتحقق الا بعد ان تكتنز الذاكرة الثقافية بالمعنى المؤنث والانوثة وهو شرط لم يتحقق بعد) فهل تراه قد قرأ قصيدة السياب هذه وهو يجزم بعدم تحقق هذا الشرط؟!!

إن انتحاب السياب لم يكن إلا على ماضٍ ذوى وما حنينه سوى شاعرية متقدة تاهت منه فأخذ يهم بالتفتيش عنها متناسياً مرضه ومتجاوزا وهنه وضعفه. أما المصير المحتوم الذي وقف بانتظاره فلم يكن يحسب له حساباً لأن أمله جعله يبصر الحياة من أوسع أبوابها، وحلمه متوهج ومتجه صوب المستقبل باستمرار لا يعرف هوادة ولا استكانة. 

ولا يهادن السياب الموت ليظفر بالحياة؛ بل هو يناغي الحياة لأجل حياة أخرى. وهذا ما نلمسه في الافتتاح بفعلية حاضرة والختام بها كاعلان ضمني أن شاعريته ما زالت حاضرة وقصيدته ستظل طفلة تفتش عنها أمها ومشواره لا يحده زمن ولا مكان، ولا يقف بوجهه عارض أو حاجز، لان قلبه مضاء بضوء شع، لكنه خبا لذا قرر إلا يستكين بالتفتيش عنه حتى وأن كان تفتيشه مُحالاً بين الدجى والصدى. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مسرح ذهني للقرّاء

جواهر سينمائية.. توثيق لحياة ثلاثة رموز سينمائية

هيثم فتح الله: تأثيرات الفن التشكيلي على أسلوبي كانت واضحة، بنقل الفوتوغراف إلى لوحة فنية

مسرحية هيكابي.. نظرة في المشهد التمهيدي

الفعاليات غير النفعية مهمة لحياة البشر

مقالات ذات صلة

الفعاليات غير النفعية مهمة لحياة البشر
عام

الفعاليات غير النفعية مهمة لحياة البشر

أدار الحوار: سوزان كروغلينسكي ترجمة: لطفية الدليميتقديم المترجمة:الحوار التالي ترجمة لمعظم فقرات الحوار المنشور بمجلّة Discover بتأريخ 13 يناير (كانون ثاني) 2007، وتمّ تحديثه بتأريخ 12 نوفمبر (تشرين ثاني) 2019 (بعد وفاة منسكي). سيلمس...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram