نوزاد حسن
قبل أيام قليلة هاجم أحد رجال الدين عالم الاجتماع الكبير علي الوردي واصفاً إياه بالتسرّع في إطلاق أحكامه.
كما انتقد منهجه في دراساته الاجتماعية التي لم تكن تعتمد على البيانات الدقيقة في رصد حالات المجتمع. لدقائق ظننت أن رجل الدين يتحدث عن الوردي الذي لم يمت بعد.ابتسمت إنه حي إذن.
رجل الدين هذا لم يقدم شيئاً جديداً.فمشكلة علي الوردي ما زالت قائمة. وما زال الرجل يقاوم موجة النسيان التي تبلع كثيراً من المثقفين والكتاب. وما يحدث يومياً في شارع المتنبي هو انتصار لروح علي الوردي لأن قرّاءه يتكاثرون.وغالباً ما يدخل قرّاء جدد في طابور المعجبين بكتاباته على الرغم من أن هؤلاء القرّاء لم يغادروا عشرينياتهم المليئة بالطموح.
إن الملفت للنظر في قضية عالم اجتماعنا الكبير هو أن رجال الدين عموماً لم يفهموه ولن يفهموه. كما إن الباحثين رغم تنوع مشاربهم وثقافتهم لم يقدموا تصوراً جديداً مكتملاً عنه.
كل ما فهمه دارسو كتبه هو إنه رجل أهان الشخصية العراقية حين وصف العراقي بأنه مزدوج الشخصية. بمعنى أن العراقي يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر. لذا قد يظن الكثيرون إنه كان ينتقص من كرامة أبناء بلده.ومن الجدير بالإشارة إن وجهة نظر علي الوردي كانت تبدو متزمتة بعض الشيء وغير دقيقة.ولا شك في أن مثل هذا الانطباع يتولد لدى أولئك الذين يريدون أن يقللوا من صدقه الكبير في تغيير طريقة فهمنا لأنفسنا,وأسلوب تعاملنا مع العالم.
أظن أن أدواتنا المنهجية والتحليلية في دراسة أفكار علي الوردي غير مكتملة لحد الآن.ذلك لأننا لم نستطع حتى هذه اللحظة من إيجاد خيط المعرفة الجميل الذي يربط بين كتبه جميعاً.
مثلا ما علاقة علم الاجتماع بكتابه عن الأحلام.؟وما الذي أراد أن يقوله بهجومه الكبير العنيف على العقل حين وضع كتابه الشهير "مهزلة العقل البشري.؟
لم يفهم أحد مُراد علي الوردي أبدا وكأننا غرباء عنه,ولا نستطيع أن ننظر الى شمس معرفته الحارقة.
هناك أسئلة أخرى يمكن طرحها الآن دون أن نتلقى منها إجابة مؤكدة أو كاشفة تقربنا من نسيج كتبه الممزق بفعل افتقارنا لمنهج يدرسه.أضف الى ذلك أن الكثيرين يظنون أن صفة عالم لا تنطبق عليه. وهذا لا يقلل من حضور أفكاره,وانتشارها,وخطرها على تفكير رجال الدين.
بدون شك يضمر كل الذين يفكرون بجوهرية العقل البشري عداءً لعلي الوردي لأنهم يراقبون الشارع,ويعرفون كيف تتوغل كتب الوردي بين فئة الشباب,وما يمكن أن تفعله فيهم.هنا تبدأ المشكلة.ذلك أن هناك خشية مريرة من تأثير أفكاره على القراء,وهذا ما يُفقد الخطاب الديني بعض تماسكه الظاهري.ولعل من يفكرون بأهمية العقل يشعرون بانزعاج كبير إنْ وقعت عيونهم على كتابه المطبوع بكثرة مهزلة العقل البشري.
في مثل هذا الجو يولد منشأ سوء الفهم الذي يحتار فيه رجال الدين,ولا يعرفون كيف يوفقون بين فرادة العقل,وبين مهزلة العقل كما تحدث عنها الوردي.
لقد جرفت عبارة الوردي "العراقي مزدوج الشخصية" المثقفين جميعاً في تيارها الصاخب.البعض ارتطمت رؤوسهم بصخور الادعاء.البعض الآخر تمسك بحرفية تفكيره مكفراً هذا الرجل الذي كان مُصلِحا من طراز فريد وذكياً الى أبعد حد,وجريئاً لا يقل جرأة عن أي مثقف تنويري في العالم.
اعتقد أن سوء فهم علي الوردي ينبع من أشياء أولها هو عدم قدرة منتقديه على إدراك سر كرهه لذلك المنطق العقلي الذي يسيطر على رجال الدين,وكثير من المثقفين.هنا وقع الخلاف والافتراق.ناهيك عن إشارات الوردي التي تنم عن تناقض صارخ حين يعود وهو عالم الاجتماع المتمدن بالحديث عن الأحلام بعفوية تسترعي انتباهنا.
نحن أمام لغز معرفي غير مكتشف حتى الآن.أمام هرم معرفي تكشف كل زاوية من زواياه عن لمحة تنبئ بعشرات التأويلات.ولم ينجح أي مغامر في رسم وجه جديد لهذا العالم البغدادي الأصيل الروح.
لأقل بكلمات قليلة إننا أمام وريث حقيقي لرومانسية أخلاقية جديدة تصر على نبذ كل حلول واستنتاجات العقل التي قادت البشر الى الاختلاف.إنه رومانسي كاره لحيل المنطق الشكلي الذي تمتلئ به رؤوس وكتب جميع من يظنون أن الحقيقة الأكيدة والوحيدة معهم.
إن علي الوردي هو رومانسي ثقافتنا الأبرز والأعظم والأكثر تأثيراً.
اترك تعليقك