نقطة ضوء: غالب رنكة ..الغائب الحاضر

د.علي عبد الزهرة الهاشمي 2020/01/01 06:48:35 م

نقطة ضوء: غالب رنكة ..الغائب الحاضر

 د.علي الهاشمي

كلما أقترب الأول من كانون الثاني يكون لقلبي وجيباً وتضجّ في أعماقي صرخات الألم وتختفي كل مظاهر السعادة وتستبدل بحزن دفين يتجدّد كلما اقتربت ذكرى رحيل استاذي وأبي الدكتور غالب رنكة،

ويشاطرني الحزن جموع الطلبة الذين تتلمذوا على يديه ونهلوا من فكره وتعلّموا منه كل قيم الإنسانية من نبل وتواضع واحترام وتقدير ليتربّع على عرش القلوب ويحتل مساحة في النفوس بأبهى صورة تعتزّ بها متاحف الوفاء بين طلبة وأستاذهم بصيغ تربوية قلّ نظيرها. كان يعامل الطلبة كزملاء ويستخدم كلمة استاذ مع الجميع برغم أننا كنّا على مقاعد الدراسة ، أي زهوٍ وفخرٍ وأي شعورٍ بالذات واستاذك يعاملك كزميل وصديق حميم .

الدخول الى الحرم الجامعي يصاحبه قلق مشروع وخوف من الخطوات القادمة بعد أن يقضي الإنسان عدّة سنوات مع أساتذته في الثانوية ويتآلف معهم ويعرف أساليبهم بالتعامل. وفي الجامعة يجد الطالب نفسه في قاعات الدرس يستكشف أساتذته وهذا يحتاج الى زمن للتكيف مجدداً في أجواء الجامعة. هذا الزمن قد يطول بعض الشيء للاطمئنان ، ولكن في الحقيقة لم نحتج لأي زمن لنتكشف أستاذنا الدكتور غالب رنكة. فمنذ الأيام الاولى شعرنا بقربه منا نستهدي به ونسترشد بأفكاره وملاحظاته ويُسعدنا كلامه الجميل الذي يبعث الأمل في نفوسنا بأنه ينتظرنا مستقبل واعد وطريق مليء بالأشواك لا بدّ لنا من تجاوزه بطاقات شبابية سيكون لها فعلها المؤثّر في سوح العمل .

لقد تجمّعتْ فيه من القيم التربوية والإنسانية ما جعلت منه مناراً نهتدي به في كلّ ممارساتنا التي طبعت عملنا بعد أن انتهينا من الدراسة الجامعية وطبقنا افكاره النيّرة حيثما حلِلنا فكانت سبباً لنجاحنا وتميّزنا في العمل ، يشار الينا بالبنان في استنباط الصيغ الجديدة والبحث عن الحلول المناسبة لخلق الأجواء التربوية المناسبة للعمل وسط الطلبة والشباب والأخذ بأيديهم نحو مستقبل مؤطّر بخدمة المجتمع والنهوض به كون الشباب ركيزة الحاضر وضمان المستقبل .

كان الدكتور غالب رنكة يُراعي بشكل كبير القيم الاجتماعية ومرتكزات الاخلاق الأسرية فعندما تم تعيينه سفيراً في إحدى الدول الأوروبية رفض ذلك التعيين وأعتذر عنه معللاً اعتذاره بأنه لا يرغب أن ينشأ أولاده في هذه المرحلة المبكّرة في أجواء أوروبية في وقت كانت أمنية أي شخص الحصول على هذا المنصب أو أقل منه ، كذلك إتسم الدكتور غالب بالزهد والترفّع عن الماديات ، فعندما تقرّر منح اساتذة الجامعة قطع الأراضي بغضّ النظر عمّا يمتلكه الاستاذ كونها تخصّ موقع العمل أو هكذا سمّيت رفض رحمه الله أن يسجل أسمه مع الآخرين مكتفياً بالحمد لله كونه يمتلك بيتاً يأويه ويكفيه ولا حاجة له بالمزيد ، وكان يراعي بشكل كبير القيم الإنسانية فعندما تم تعيينه عميداً للطلبة ورعاية الشباب في جامعة بغداد كانت وقتها تخصّص مُنح شهرية للطلبة تعينهم مادياً على الاستمرار في الدراسة فلم يرد طلباً لأحد ، بل كان يشجّع الطلبة على الاستفادة من المبلغ معطياً الأولوية لأبناء المحافظات الذين يدرسون في بغداد.

لقد عمل الدكتور غالب رنكة في مواقع عديدة على امتداد عمره المبجّل كاكاديمي لامع اجتمع لديه فكره النيّر وجاذبيته بالحديث وثقافته الموسوعية يشدّ انتباه من يستمع اليه فقد كان قارئاً نهِماً استمرّت معه عادة القراءة حتى آخر يوم في حياته وكان يمتلك ذاكرة حديدية للأحداث والاشخاص الصانعين لها ، مُحلّلاً ومُعلّلاً ما رافقها وما نتج عنها وهذا ما وقفت عليه بنفسي في أيامه الأخيرة كان مُتّقد الذهن ويشير للأحداث في اعماق الزمن كأنها حدثت تواً هذه السمة الثقافية التي حباه الله بها وجهت طلبته لاعتبار الثقافة واجباً وطنياً يحتّمه علينا التطوّر الانساني والاجتماعي.

كما كان رحمه الله من المؤسّسين لجريدة الرياضي العراقية اليومية والتي أغناها بملاحظات استرشادية نقلت تجارب دول سبقتنا في هذا المضمار ، إضافة الى كونه أمين عام اللجنة الأولمبية الوطنية العراقية لسنوات طوال كان فيها عنصراً فاعلاً في تطوّر الحركة الأولمبية . وكم كنت اتمنى أن تنظّم له اللجنة الأولمبية الحالية تأبيناً يليق بأسمه ودورهِ كونه علماً عراقياً رفرف في سماء المجد تفيأ تحت ظله كثيرون.

في ذكرى رحيلك الثاني والدامي لقلوب طلبتك ومن عرفك نتحسّس وجودك حاضراً معنا ، يرنّ في آذاننا طيب كلامك ، وترافقنا أبداً افكارك ، غبتَ عنّا في وقت كانت تشتد الحاجة الى وجودك ننهلُ من كل قيمك أصالةً ووفاءً ، رحلتَ عنّا وأنت الأقرب الى الروح والأحب الى النفس لن ننساك ما حيينا وليس لدينا وسيلة غير الدعاء أن يتقبّلك الله بواسع جنته ويمنحنا جميعاً الصبر على فقدك وألم فراقك.

نَمْ قرير العين ستبقى خالداً في أذهاننا ، رحلت جسداً وبقيتْ روحك الطاهرة ترفرفُ حولنا تحتضننا بحنو جناحيها كلّما غمرتنا أعاصير الظلام.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top