المسلّات مدونات اليومي

المسلّات مدونات اليومي

ناجح المعموري

سبع مدونات سردية ، هي كل المجموعة الصادرة للقاص عبد الستار البيضاني رسمت حدوداً للسرد ، واختلفت عما كان مألوفاً وشائقاً في الكتابة ، وأراد لها أن تكون نصوصاً ،

لأن البيضاني حررها من ضغط البناء النمطي ، والتقليدي المألوف بالكتابة القصصية وفتح أمامها نوافذ لم توفر للنصوص تنوعات النصي الذي دائماً ما يخلخل فنية القصة ، لذا تبدّت مدونات المسلات موزعة بين المألوف السردي وبين النصي الخجل .

العنونة مثيرة ، أراد من خلالها إضفاء دلالتها على الظاهرة العامة ، متجاوزاً الذاتية الضيقة ، التي تعبر عن الشخصية . والمسلة إعلان واسع وطاغٍ ، حافظ لظواهر كبيرة في الحياة ، لم تكن معنية بشخص واحد ، بل تجاوزت حدوده ، لجماعات واسعة ، هذا الملمح هو الذي جعلها نصوصاً ، مضافاً لذلك التحرر من الأفكار والأحداث السائدة واختراق حضورها بالاختلاف . وجعل القاص عبد الستار البيضاني من المسلة رمزاً ناظماً للموضوع السردي ، وأضفى عليها حضوراً بصرياً . لأن العنونة تفتح المعنى الرمزي لها ، وهو عميق ، أضفى البطرياركية والفحولة على كارثة الحرب . لأنها فعل فحولي ، اتخذ قرار اشعالها الرجال ، وحتى يلصق البيضاني تهمة إعلان الحرب على الفحولة اسماها مسلة ، لأن التاريخ القديم ، عرف المسلات رمزاً أسطورياً مبكراً وشاهداً على نوع من التحول في الحياة باتجاه سلطة البطرياركية والاشهار عن مجد باق ، ومثال ذلك مسلة حمورابي ، الدال على السلطة الثقافية ، القادرة على اخضاع الجماعات وإرغامها على قبول التفاصيل المكونة لمروية عامة ، تخلصت من واحدية الشخص المألوف في السرد القصصي . وربما يثار سؤال مهم حول وجود خلخلة لسيادة الشخصية ، مثلما هو في نص " مسلة الحب " المعبرة بذكاء عن غربة المقاتل وفقدانه للآخر ، الأكثر حميمة وهو العشيقة أو الزوجة .

تبدو هذه الموضوعة الخاصة عامة جداً ، لتشارك من كان موجوداً بالحرب فيها . ووجدت بأن " مسلة الحرب " ممتلكة طاقة إشهار اللعنة الأزلية وقد تفرعت عن عدد من المسلات .

اللعنة الأسطورية الأولى التي اقترفها قابيل بعد أن رفض الإله الأب استلام تقديمه وتحمس لعطايا هابيل . ابتكر ما لم يعرف قبله " مسلة قابيل " سردية للجميع ولكل الامكنة في العالم ، هي أكثر المسلات حضوراً وتعريفاً بالدموي والإبادة . وتفاصيل الحرب التي تهيكلت عليها هذه السردية ، هي يوميات المقاتل وقد تبدّت بطاقتها السيرّية ، الكاشفة عن حياة الراوي وسط الحرب . وهذا ما اضاءته مسلة الاصدقاء / ومسلة الحب .

الحرب خزان مسلات ، كل ظاهرة فيها هي مسلة ، لأنها ليست واحدة ، بل عامة ، وللحرب سيروراتها المفضية لفضاء البشاعة . قابيل ، صانع الموت الاول " سقطت ورقة التين التي تستر عورته ، ولم ــ يكترث ــ وهذه اول مرة في التاريخ البشري يفقد الانسان حياءه ... شهوة الموت اقوى من الحياة وتلك مسلة اخرى ص 12//

" لقد ارهقتنا الحروب الخاسرة " صرخة الكائن / والجماعات ، حطب الحرب واستمرار اشتعال نارها . لعنة على قابيل الذي أسكت الأصوات ، وجعل صوت الموت والتدمير والحرائق . أما مسلة الاصدقاء والتعارف وكثرة المرويات بين الاصدقاء ، واستحقت مسلة للإعلان عن تفاصيلها . وأهمها حضوراً لعبة كرة القدم . والتناظر الرمزي مهم في هذه المروية ، اختصرت كثيراً الدلائل وذهبت نحو ساحة كرة القدم وجغرافية الحرب ، والنتائج التي تسفر عنها كرة القدم مماثلة لما تتبدّى عنه الحرب ، خسارة / هزيمة / فوز ، انتصار / في الحرب النصر خسارة .

استهلال " مسلة الأصدقاء " مركز رسم صورة عيانية امسكت بالموضوعة السردية ذات البلاغة القوية ، صديقان تشاركا معاً بلعبة كرة القدم ، وعاشا معاً تفاصيل لعبة الحرب / كلما تعانق الكرة شباك المرمى اتذكرك ، تنفتح عيناك في جوارحي مثل غابة خضراء تتزحزح في عمق السراب ........ حينذاك ، وبعد أن تفرك الكرة المقذوفة أحزان اللاعبين . وأفراحهم على شباك المرمى وتسقط في أسفل الزاوية منهكة ، أراك وجلاً تتسلق خيطاً رفيعاً من كأبتي وتتربع على قلبي .. عيناك الخضراوان تغرورقان بالدمع الذي يترجرح فوقها مثل السراب ... اكره فيك حنينك الذي يذكرني بضعف النساء العاطفي . بدا كلامي جارحاً أنا أردته كذلك ، فوحشة السواتر لا تتحمل كل هذه الرقة . ص 19//

ــ " الحرب لعبت بنا طوبة " 

تنظفها وانت مطرق الرأس ! .... ازيح شعرك على وجنتك واصطنع خشونة وصلابة لا امتلكها .

ــ ها أنا ذاهب لأنهاء الحرب 

ــ وتتركني هنا .

لكي لا تأتي ورائي .. سأنهي .. سأنهي " المباراة " كما كنت تنهيها بأهدافك الجميلة 

ــ تذكر إنك الآن كرة ولست رعباً .... ربما سألحق بك / ص 20//

تتضح للقراءة التداخلات بين كرة القدم وبين الحرب .. كلاهما لعبتان تحققان أهدافاً جميلة ، لكنها ــ الحرب ــ أهداف تدمير وإبادة غادر لاعبو كرة القدم ملاعبهم واقتيدوا الى ساحات الحرب ومعاينة الاصدقاء تقرهم الصواريخ ولم يتركوا غير حكاياتهم ومسودات رسائل . غادروا جياعاً وظلت جياعهم التي تحدثت عنهن " مسلة الحرب " .

تميزت هذه السردية الجميلة بالتماثل بين كرة القدم والحرب التي دنت الحرب منها وجعلتها مثيلاً للعبة بسرديات فضيعة ، يتم فيها تبادل الأعضاء ، كي يتحدى الكائن دمارات الحرب ويبقى حياً " ربما تنتظرني نتبادل أعضاءنا المعطوبة لكي نبقى أحياء ليست هذه هي صداقة الحرب ؟ فكيف اذا كانت صداقتنا موصولة بمخلفات السلام التي نتذكرها مثل الايقونات الاثرية ص 31//

يلتقط البيضاني نهاية مسلة الاصدقاء بحتمية انتظار سقوط الصديق ... ترى هل ننتظرك .

" مسلة الحب " أكثر المسلات وجعاً وحزناً ، لأنها تعطل سيرورة الحياة وتوقف ثنائية الحب وتبادل المشاعر وتصير ضداً لانعاش الخصوبة وتجددها . والمرأة أكثر الكائنات تأثراً بالحرب ، ربما يقول أحدنا بأن الموت حاصد للشباب ومعطل لهم . هذا صحيح ، لكن المرأة تظل حيّة وتواجه موت الجسد في كل لحظة ، لأن حياتها كائنة بالثنائي والغياب يجعلها حضوراً معطلاً أو معروضاً مذلاً ومهاناً ، تضطر أن تكون قابلة بكل إشارة أو دعوة ضمنية ، لأنها لا تقوى على ديمومة العطش جسد المرأة عطش ويريد رطوبة ، وعطلت الحرب زوجها ميتاً او اسيراً وتضطر ان تبحث عن آلية تبلل جسدها وتشبع جوعاً آنياً . " مسلة الحب " سردها وجع متوتر بالحزن والألم ، انطوت على صور سردية شفافة نابضة بالرمزية الموظفة للحياتي واليومي ، من اجل ارسال رسالة واضحة متحدية الحرب ولعنتها . الحرب قاسية ، عطلت الساقية وجف ماؤها ، مثلما تعطل ماء المرأة التي اصطحبها المقاتل عاشقاً لحظة ، لأنها ــ المرأة ــ تعشق من تصطاد ويتمتعان معاً . أخذهما فرش لها صحيفة الحرب وأخبارها وأهان قابليها وتمددت عليها وابتدأ حربه من نوع آخر ، ولم يكتفِ ، بل أدار مسلتها وفعل أيضاً .

قالت : 

ــ مع ذلك سيكون ذلك أفضل من أن أموت دونك ...

ومن ثم تطلقين حجلتك الحزينة .

ــ سأموت سريعاً لو عشت من دونك !

ــ وإذا انتهت الحرب .

ــ وما الفرق .

ــ عندها سيعود زوجك الى البيت .

المسلات ، نصوص سردية مستلة من عمق الوجع العراقي وخزانات الالم والحزن الذي عشناه وظل في الذاكرة مورثاً لمن سيأتي ، إنها سرديات تستحق القراءة والفحص وكشف تنوع شعرياتها ورمزياتها العميقة ذات الطاقة البليغة .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top