ثورة تشرين وصراع الوطنيات

آراء وأفكار 2020/01/25 08:17:08 م

ثورة تشرين وصراع الوطنيات

فراس ناجي*

يمكن إعتبار التحوّل في موقف السيد مقتدى الصدر أحد أهم ردود الأفعال في المشهد السياسي العراقي بعد التصعيد الصادم للصراع الإيراني الأميركي على الساحة العراقية.

فقد إصطف زعيم التيار الصدري مع معسكر "المقاومة" الداعي الى خروج القوات الأميركية من العراق، بل وتوّلى قيادة هذا المعسكر والذي ضّم بالإضافة الى فصائل الصدر العسكرية معظم الفصائل المسلحة الأخرى من دون التفرقة بين "المنضبطة" منها عن "الوقحة" كما جرت عادته. كما يحاول الآن تغيير توازن القوى في الشارع العراقي عبر إظهار قدرته على التحشيد الجماهيري في تظاهرات "مليونية" تحت شعار إعادة سيادة العراق من خلال طرد القوات الأميركية منه.

إنّ أهم مايشير اليه هذا التحوّل هو النقلة النوعية في طبيعة الصراع السياسي منذ بدء التظاهرات في الأول من تشرين الأول الماضي من ثورة إحتجاجية شعبية لمشروع وطني ضد نظام سياسي فاشل ومتهاوي، الى صراع بين مشروعين وطنيين بديلين لهذا النظام المستهلك. 

فالمشروع الوطني لحركة الإحتجاجات الشبابية "نريد وطن" يسعى لتأسيس دولة سيادية مؤسساتية تعتمد على مبدأ المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات تُشيّد على أنقاض نظام المحاصصة المكوناتية الذي أسّسه ورعاه الغزو الأميركي في 2003. فقد أدّت هيمنة عقيدة الإسلام السياسي في المجتمع العراقي الى التنافس و الصدام الطائفي، فيما عملت المحاصصة المكوناتية على تقاسم موارد الدولة ومواقع النفوذ والسلطة بين القوى السياسية المكوناتية مّا أدّى الى الشلل في السياسات واستشراء الفساد والقصور في سيادة الدولة وبالتالي الى الخراب الذي أعقب إجتياح داعش للعراق في 2014. فقد تبنت حركة الإحتجاجات الشبابية نزعة وطنية تجاوزت حدود المقدسات الطائفية ورفضت استغلال الدين للأغراض السياسية، بل أعطت أولويتها الى جمع أطياف الشعب العراقي تحت رموز وطنية واحدة والتزمت بسلمية الحراك الإحتجاجي وبالسياق الدستوري لعملية التغيير السياسي المنشودة. 

أمّا المشروع الآخر فيستند الى ثقل السيد مقتدى الصدر بواجهاته السياسية وأذرعه العسكرية وقاعدته الشعبية. وهو الذي بناه عبر تصّدره للحركات الإحتجاجية الشعبية منذ 2015 ووسّع من قاعدته الشعبية عبر التنسيق مع قوى مدنية ويسارية حيث تضّمن خطابه الوطني السعي الى الخلاص من المحاصصة الطائفية والسياسية وتعزيز الطابع المدني للدولة وتحقيق العدالة الإجتماعية ومكافحة الفساد. غير إن هذا المشروع الوطني الصدري لإصلاح نظام ما بعد 2003 السياسي والذي دخل على أساسه في الإنتخابات الأخيرة وحصل على أعلى عدد من المقاعد النيابية، قد تغير هو الآخر لحفظ التوازن الإقليمي على الساحة العراقية الذي أختّل في صميمه بعد الضربة الأميركية القاسية، حيث تصدّر خطاب المقاومة والدعوة الى إخراج القوات الأمريكية من العراق أولويات هذا المشروع. 

ويبدو أن تطورات أحداث الصراع الإيراني – الأميركي بعد التصعيد الأخير غير المسبوق تتجه نحو محاولة لملمة تداعيات الموقف من أجل تجنب الحرب المباشرة بين الطرفين والتي لا يرغب فيها أي طرف، و بالتالي إلى نوع من الهدوء النسبي يتيح لكل طرف إعادة ترتيب أوراقه وبناء قواعد جديدة للصراع بينهما. ولهذا فمن المرجّح أن تستمر ديناميات التأثير على حركة الإحتجاجات الشبابية من أجل حرفها للميلان بإتجاه طرف من الصراع ضد الطرف الآخر، ما يهدد عملية التغيير السياسي ويمكن أن يقود الى زيادة العنف وتدهور الأوضاع الأمنية واحتمالات التدخل الدولي.

فقد أعادت جبهة "المقاومة" ترتيب صفوفها بتقارب فصائلها العسكرية مع التيار الصدري والقبول بقيادته لمعسكر المقاومة في الوقت الحالي للحصول على غطاء شعبي وسياسي أكثر فاعلية من الغطاء الذي كانت توَفره أحزاب السلطة من الإسلام السياسي التي تآكلت شعبيتها و شُلّت قدرتها على التأثير في المشهد السياسي. و على الرغم من أن مواقف الصدر الأخيرة حاولت التقليل من وطأة هذا التقارب عبر التراجع عن دعوته الأولية لتأسيس "أفواج المقاومة الدولية" من فصائل مسلحة من المقاتلین داخل العراق و خارجه و كذلك دعوته الى التوقف المؤقت للمقاومة و الى دمج الحشد الشعبي بوزارتي الدفاع و الداخلية ، إلّا ان هذا التقارب يبقى يمثّل تحولاً جوهرياً في المشهد السياسي العراقي.

حيث إن من المرجّح أن موقفه الجديد سيؤدي الى شق صف حركة الإحتجاجات الشبابية بإعتبار أن نسبة مهمة من الشباب المحتجين يمكن إعتبارهم من القاعدة الشعبية للتيار الصدري. فالتركيز على موضوع إخراج القوات الأميركية سيؤدي الى تشتيت أولويات ثورة تشرين في الضغط على أحزاب السلطة نحو تشكيل حكومة مستقلة فاعلة تسعى لإنجاز برنامج حركة الإحتجاج في التغيير السياسي عبر إنتخابات مبكرة و نزيهة. كما إن مشروع الصدر في حلّته الجديدة التي تحتضن فصائل أحزاب السلطة والتي ينظر اليها الكثير من المحتجين وجماهيرهم على إنها معادية لثورة تشرين وأن ولائها الأول لإيران على حساب المصلحة العراقية، سيزيد من شكوك الكثيرين في وطنية أولويات المشروع الصدري الجديد.

أمّا المعسكر الموالي لأميركا فيحاول أن يجني ثمار تطورات الأحداث التي أظهرت أميركا الأقوى إستخباراتياً والأكبر قدرة على تصفية أعدائها في العراق. فهذا المعسكر يواصل بالوسائل الإعلامية والضغط السياسي وبإستخدام القوة الناعمة العمل على حرف ثورة تشرين بإتجاه إختزال الصراع السياسي في العراق على أنه من أجل طرد إيران من العراق وإنهاء سيطرة عملائها ومن ضمنهم التيَار الصدري بعد تحوله مؤخراً نحو جبهة المقاومة. كما يحاول أن يصّور الحل للأزمة السياسية الحالية ليس بالضرورة عبر طريق الإنتخابات المبكرة النزيهة وبناء نظام سياسي بديل على أسس سليمة، وإنما عن طريق صفقة سياسية برعاية أميركية تكون فيها حركة الإحتجاجات أحد أطرافها، ويتم فيها مقايضة بقاء القوات الأميركية في العراق ومحاربة المصالح الإيرانية في العراق مقابل الدعم الأميركي لإعادة إعمار العراق وتأمين إستقرار العراق السياسي والإقتصادي.

طبعا من المؤكد أن كلا الرؤيتين الإيرانية أو الأميركية للحل في العراق هما قاصرتان وتفتقدان الى أي حلول حقيقية أو جوهرية لأسباب المشاكل في العراق والتي أدّت الى الوضع الحالي المتفجر، كما تخلوان من أي ضمانات في أن الحلول المطروحة هي مستدامة على المدى المتوسط والبعيد بحيث تحقق ما يطمح اليه شباب العراق من حياة حرة كريمة ومستقبل مزدهر.

فالرؤية الإيرانية بإستنادها إلى عقيدة دينية عابرة للحدود الوطنية من جهة، وعملها على تعزيز الشرعية الثورية لمشروعها الوطني – عبر أولوية مفهوم المقاومة – على حساب الشرعية المدنية الدستورية للدولة العراقية من جهة أخرى، تعوق عملية الإستقرار السياسي والمجتمعي في العراق. فتأريخ العراق منذ تأسيس دولته الوطنية يؤكد ان هذين العاملين هما من أهم أسباب عدم الإستقرار في المجتمع العراقي. فالقومية العربية إستخدمت كعذر لتدخل القوى الخارجية في الشؤون العراقية ورهن مصلحة العراق من أجل مصالح شخصية أو لدول أخرى. كما أن تقديم الأولوية الثورية على الشرعية الدستورية للنظام الجمهوري في العراق منذ تأسيسه في 14 تموز 1958 حتى سقوط نظام صدّام حسين في 2003 قاد الى هيمنة المؤسسات "الثورية" على الدولة مثل مجلس قيادة الثورة ومختلف الفصائل المسلحة خارج نطاق مؤسسات الجيش، ما أدّى بالتالي الى احتكار السلطة من قبل قوى سياسية تدّعي إمتلاكها للشرعية الثورية ثمّ الى قمع المعارضة السياسية وتهميش الشرعية الدستورية للدولة عبر تشريعات مؤقتة لضمان إستمرارية إحتكارها للسلطة. وكانت المحصلة في النهاية أن دفع المجتمع العراقي برمّته أبهظ الأثمان عبر ملايين الضحايا والحروب الكارثية التي إنتهت الى الخراب الكامل الذي يمّر به العراق في حاضره الآني. 

بالإضافة الى إنّ تجربة ما بعد داعش أظهرت تغلغل العديد من الفصائل العسكرية التي شاركت في تحرير الأراضي المحتلة من داعش في داخل مؤسسات الدولة الأمنية، وإمتلاكها لأجهزة استخباراتية وأمنية وقوات ضاربة تعمل لصالح أجندتها الخاصة خارج نطاق سيادة الدولة وحكومتها المنتخبة، مما يؤكد إستغلال هذه الفصائل لشرعيتها "الثورية" المكتسبة على حساب مؤسسات الدولة الشرعية.

أمّا الرؤية الأميركية فغير واقعية لأن تاريخ الشعب العراقي مليء بالثورات من أجل التحرر من هيمنة القوى الأجنبية مثل ثورة العشرين وثورة مايس 1941 و ثورة 14 تموز، ومن غير المحتمل أن تساند غالبية الشعب العراقي عقد صفقة مع أمريكا تتيح لها إستخدام العراق قاعدة لمشاريعها في الشرق الأوسط. كما إن من غير المرجح أن يثق غالبية الشعب العراقي بقدرة أمريكا في إعادة إعمار العراق وهي التي لم تعّمره عندما كان تحت سيطرتها المباشرة لغاية 2011. بالإضافة الى أن عقد صفقة مع الإدارة الأميركية الحالية لابد أن يكون موّجها ضد إيران، وهذا لا يخدم المصلحة العراقية لأنه يحفّز إيران أكثر نحو تصعيد الصراع مع أميركا على الساحة العراقية.

يبقى الطريق الواقعي لإيجاد حل حقيقي لمحنة العراق وشعبه هو في بناء نزعة وطنية تستلهم ما حققه الشباب الثائر في ساحات الإحتجاج من إعادة الإيمان بقدرة الشعب العراقي ومن تعزيز للهوية الوطنية العراقية وما يطمحون لتحقيقه. وفي نفس الوقت تستند هذه النزعة إلى التجربة الوطنية الغنية للمسيرة التاريخية للشعب العراقي منذ نشوء وعيه الوطني الحديث، إذ يمكن أن يشكل هذا الأرث الوطني أرضية مشتركة للتفاعل الفكري والثقافي والسياسي بين قوى المجتمع العراقي الفاعلة ذات الأجندات الوطنية غير الملتبسة أو المنحازة لقوى خارجية. عندها يكون العماد الأساسي للنزعة الوطنية العراقية مشروع "نريد وطن" لثورة تشرين والذي يستند إلى تعزيز سيادة الدولة الحقيقية على كل أرض العراق وعلى جميع قوى النفوذ الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى أولوية الشرعية الدستورية على حركات التغيير الثورية وعدم إستغلال الدين للأغراض السياسية ومحاربة الفساد وضمان الحقوق السياسية وتحقيق العدالة الإجتماعية.

إنّ هذا المشروع الوطني الجامع إذا تمّ تعزيزه ببرنامج واقعي يمكن أن يعمل على أن ينقل العراق وشعبه من كونه ساحة لصراع القوى الأجنبية الى ساحة تكافل وطني لبناء وطن حقيقي للأجيال القادمة، و بالتالي يمكن أن يسهم في إيجاد حلول فعلية لأزمات الشرق الأوسط المستعصية بدل من أن يكون وقوداً لهذه الأزمات.

* أكاديمي عراقي

تعليقات الزوار

  • محمد العزاوى

    مقال متكامل من الناحية الفكرية ويكاد يكون شامل وعاكس لافكار المواطن العراقي الطامح الى التغيير والوصول الى حالة من الاستقرار السياسي والمعيشي..بارك الله بالجهود المبذولة في صياغة هذا المقال الرائع

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top