د. أحمد عبد الرزاق شكارة
إن مسألة مدى توفر الثقة المتبادلة بين الحكام والمحكومين غاية في الأهمية خاصة وأنها من المفترض أن تؤسس لعقد اجتماعي جديد .
ما نبحث عنه تفصيلاً في مسار تطورات الأحداث منذ الانتفاضة التشرينية وحتى الآن تقتضي منا أن نبحث في تطورات المرحلة الانتقالية العصيبة شكلاً ومضموناً بهدف التنبؤ بنتائجها أو مآلاتها النهائية . حقبة طويلة زمنياً كلفت حتى الآن شعبنا العراقي الكثير من التضحيات الجسام بشرياً ومادياً .
من هنا ضرورة التطرق إلى مسألة مدى ثقة الشعوب بحكوماتها من خلال إعتماد مقياس أو مؤشر محدد للثقة . ما يتوفر حالياً مقياس يعرف بEdelman Trust Barometer - . ريتشارد إيدلمان ذاته أشار إلى إعتبارين أساسيين يتم من خلالهما منح الثقة من قبل شعوب العالم لحكوماتها وهما يرتبطان بتوفر : أولاً: الكفاءة ، ثانياً : السلوك الاخلاقي والأخير حصد الجزء الأكبر من التأييد الشعبي .
وفقا لإديلمان يعيش عالمنا مفارقة سمتها التناقض تؤكد من جهة أن الخصيصة العالمية لمؤشرات الاقتصاد الدولي تتسم بقوة الأداء وبوجود عمالة تكاد تشكل نموذجاً محدداً ما يعرف بصفة عمالة كاملة Full Employment وهي في تقديري من جهة مقابلة مسألة من الصعب القطع بها في حالة الدول النامية التي لم ترتقِ بمعدلات النمو الاقتصادي دع عنك وصولها لمرحلة التنمية الاقتصادية المنشودة . بموازاة هذا المسار أو بالرغم منه استطاع مايقارب من بليون شخص الخروج من دائرة الفقر وهو أمر مهم ولكنه لازال غير كاف للنهوض بمستوى حياة إنسانية لائقة في الكثير من دول العالم ومن ضمنها العراق الذي لم تقل فيه نسبة الفقر وفقا للاحصاءات الرسمية وغير الرسمية بل تصاعدت وهو أمر مؤسف ويدمي القلب .
من هنا ، تأتي أهمية بل وضرورة أن تنعم المؤسسات المجتمعية المتنوعة بمعدلات عالية من الثقة بدءاً من ضرورة تحديد أدوار الحكومات والمنظمات غير الحكومية NGO في الإطار التنموي ومن ثم متابعة دور الإعلام الذي يعد سلطة رابعة وخامسة يتحمل مسؤولية تسليط الضوء على الأزمات والمشكلات الحياتية من أجل حلول لها . جدير بالذكر أنه ومن تداعيات التعامل مع مفهوم الثقة يؤكد لنا بارومتر الثقة للعام 2020 أنه لاتوجد مؤسسة محددة يمكن الثقة بها بشكل مطلق على الصعيد العالمي . إن المرحلة الزمنية القادمة قد توفر لنا مناخات إقتصادية جيدة تنبئ ربما عن إحتمالات إيجابية مستقبلية تتوفر من خلالها معدلات عالية للثقة بين الحكومات وشعوبها هذا بشكل عام . أما في المرحلة المفصلية من تاريخنا السياسي العربي مايعرف بحراك أو إنتفاضات الربيع منذ 2011 فقد قدمت لنا نماذج متباينة جدلية من الحكم الذي في مجمله لم ينعكس إيجاباً على حياة المواطنين عبر منطقتي الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا مايعرف بإقليم مينا MENA . علما أن النتائج المتحققة على الأرض تقتضي منا مزيداً من الدراسة والتعمق بالنظرلخصوصية تجارب الدول المعنية وبالتالي ضرورة إعمال التقييم الموضوعي . الحراك الاخير في كل من العراق ولبنان وفر لنا انتفاضات شعبية عارمة قلبها دور الشباب الذي آل على ذاته أن لايرجع لحالة السكون أو الاستكانة أي إلى الامر الواقع status – quo خاصة مع استمرارالمعاناة الحياتية الشديدة الوطأة من فقر وبطالة ومرض وغيرها ما يعرقل أو يقلل من فرص الاستجابة الحقيقية للاحتياجات والمطالب الانسانية العاجلة .
من الصحيح القول إن بارومتر قياس الثقة الذي انتجه إديلمان ركز على أربعة مكونات رئيسة مهمة : الحكومات ، قطاع الأعمال ، المنظمات غير الحكومية NGO’s والإعلام إلا أن النتائج تقول بإن المنظمات غير الحكومية وقطاع الأعمال حصدا الجزء الأكبرمن "كعكة الثقة" بنسبة متواضعة (58 %) . أما الحكومة والإعلام فكلاهما حصد (49 %) وهي نسبة ضعيفة . هذا وعند معرفتنا بانعكاسات موضوعة الثقة بين المواطنين والمؤسسات فإننا نجد أنه في العموم يعد الأشخاص الأكثر إدراكاً لإهمية بناء الثقة مع المؤسسات هم بالذات الأكثر رفاهة من الناحية الاقتصادية والاكثر تعليماً بل واستهلاكاً للأخبار أو للمعلومات المهمة جداً عبر وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي هذا قياساً أو مقارنة بغالبية السكان في العالم التي لم تصل بعد لهذا المستوى المعرفي العالي .
ترتيباً على ذلك، يمكن القول بإنه إذا كانت الثقة غير متوفرة بشكل مناسب بين المواطنين والمؤسسات المختلفة في الدول التي لها باع وأسواق رأسمالية متقدمة ترجع إلى تحكم قلة من المواطنين في الشأن الاقتصادي بهدف حماية المصالح الضيقة فإنها مسألة تستدعي منا التوقف كثيرا عندها حيث أن مدى الثقة الشعبية بالجانب المؤسسي في الدول النامية بضمنها العراق آخذة بالتأكل نظرا لكون مالدينا من مؤسسات لايرقى إلى الرصانة والنضوج ، مؤسسات لاتخضع بشكل كاف للشفافية وللمحاسبة القانونية اللازمة أو المناسبة علما بأن الفساد تجذر في أعماق أجهزة النظام السياسي- الاقتصادي. ضمن هذا السياق كيف لنا أن نتصور اوضاع الفقراء أو مايعرف بفئة"المحرومين" وهم عمليا لاينالوا مايستحقونه من حصص مالية – إقتصادية منتجة من الاقتصاد الوطني العراقي. جدير بالذكر إن نخبة من الدول التي ليست بالضرورة دولاً متقدمة تتبع مسار الاقتصاد الرأسمالي مثل الولايات المتحدة ، بريطانيا وغيرها لازلت بعيدة نسبياً عن إدارة ملف عدم العدالة الاجتماعية بصورة راشدة أو متقدمة عكس دول أخرى مثل الصين ، الهند ، أندونيسيا ، المملكة العربية السعودية ، دولة الامارات العربية المتحدة وغيرها التي حققت مواقع متقدمة في مقياس إيلمان للثقة .
من منظور مكمل نجد أن مسألة الحفاظ على الثقة وتنميتها تعد حيوية لطمئنة الشعوب من أن حكوماتها تقوم فعلياً بتلبية تعهداتها والتزاماتها ما يعزز الثقة بها للمدى الستراتيجي. من منظورنا ، العراق لازال حالياً بعيداً عن نيل اي موقع في مقياس الثقة . اليس العراق شأنه كباقي الدول الصاعدة تنمويا Rising Powers بحاجة إلى تاسيس حالة الثقة المتطلبة مجتمعياً وسياسياً حالة تنمى مستقبلاً بشكل مستدام بين المواطنين والنظام السياسي؟ الجواب بالايجاب أي يفترض أن يتحقق ذلك ولكن نظراً لاستمرار تآكل مؤسسات الدولة العراقية من قبل أحزاب وتكتلات سياسية وضعت مصالحها الفئوية القصيرة المدى على حساب مصلحة الشعب العراقي برمته وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تخلف في التنمية البشرية المستدامة. ضمن هذا السياق برز تساؤل آخر طرحه تقرير إديلمان للثقة مضمونه : من تثق به أكثر من شرائح المجتمع ومؤسساته؟ الجواب وفقا لمعطيات تقرير إديلمان للثقة : جاءت في المرتبة الأولى فئة العلماء بنــــــسبة80 % ومن ثم بالتتابع: أعضاء المجتمع عموماً 69 %، ثم مواطنو الدولة المعنية بالاستبيان 65 %.
أما الفئات الاخرى التي لم تنل مراتب جيدة في مجال الثقة بهم: رجال الدين 46 %، القادة الحكوميون 42 % وأخيراً المجتمع الأكثــــــــــر ثراءً 36 %.
ترتيباً على ماتقدم أو انعكاساً له ، هل من المستغرب أن نرى شعبنا وآخرين من شعوب العالم مماثلة أوضاعهم لإوضاعنا (لبنان مثلاً) تتصاعد شكواهم من تردي الأوضاع نظراً لتصاعد نسب الفقر والبطالة ولعلي وأنا اتابع الاحداث وجدت تغريدة مهمة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد مفادها إعلان دولة الامارات العربية المتحدة من دافوس –سويسرا "مشاركتها وإنضمامها لأكبر حدث إنساني للقضاء على الفقر ..يشاهده أكثر من مليار ونصف المليار مشاهد..بمشاركة 10 مدن عالمية. الموعد 26 سبتمبر القادم" والهدف وضع حد للفقر المدقع بحلول 2030. مبادرات كهذه يمكن للعراق أن يسهم بها مستقبلاً خاصة وأن العراق ليست دولة ضعيفة الإمكانات الاقتصادية والبشرية ولكنها دولة تعاني من سوء وإساءة إدارة الحكم والرقابة على المال العام مع استمرار وجود ذهنيات لازالت تعتقد أن تفكيرها التقليدي المبني على ريعية الاقتصاد النفطي دون تنويع مصادر الدخل والطاقة هو أصوب طريق للتقدم والنجاح بينما نرى أن شعبنا المنهك لم ياخذ حقه المناسب بالتنمية البشرية المستدامة حيث أسدل الستار عن ضرورة تنمية القطاع الخاص والارتقاء به تلبية لتطلعات وآمال شعبنا في تنمية أنسانية مستدامة تراعي أيضاً التطورات المتسارعة لإقتصاد رقمي ومعرفي جديد هو الأساس لبناء عراق مستقل بالمفهوم الكلي "ستراتيجيا". إن تحقق خطوات جدية على طريق التخلص من الفساد المستشري في مؤسسات الدولة بموازاة إعداد وتنفيذ خطط تنموية حقيقية ستسهل كثيراً من تشكل موازنات قوية رصينة تتمتع بعدالة تخصيص وتوزيع الموارد والعوائد وتعلي من الجانب الاستثماري على حساب التشغيلي الاستهلاكي . هذا ما ننتظره ولكن هل تتحقق ؟ مسألة تدعو للإسراع بالانتقال لمرحلة الرفاه الاجتماعي – الاقتصادي حيث يجب أن يتمتع كل مواطن فيها بجودة حياة تليق به إسوة بدول العالم المتقدم أو بالدول الصاعدة تنموياً مثل ال BRICS (البرازيل ، روسيا، الهند ، الصين وجنوب افريقيا).
من هنا أخيراً ، إذا ما تحققت إنجازات مماثلة أو أفضل نسبياً لما إنجز في فترات تعد شذرات من تاريخ العراق الحديث مثل فترة الخمسينيات والسبعينيات من القرن المنصرم يمكن عندها أن نقول أن جزءاً مهماً من مسار الثقة المتبادلة آخذ في التحقق بصورة تلبي آمال شعبنا . اخيرا فأن توفر مناخاً أمنياً واستقراراً مواتياً لنجاح خطط التنمية المستدامة مسألة أساسية لابد منها ولن تتحقق إذا ما استمرت "عسكرة الدولة" أو عدم تحكمها بسلطة القرار السيادي الوطني الذي يعطي للعراق وشعبه حقوقه وحرياته المستحقة والهيبة التي تعلي من مكانة العراق عالمياً ومن الثقة به قوة اقليمية مهمة في منطقتنا الشرق أوسطية.
اترك تعليقك