عمارة مجمع  بلوكس  في كوبنهاغن:  أبعد من الحداثة، وأقرب إلى..  ما بعدها

عمارة مجمع بلوكس في كوبنهاغن: أبعد من الحداثة، وأقرب إلى.. ما بعدها

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

أَتَقَصَّدُ أن يكون مساري الى "المكتبة الملكية" في كوبنهاغن (وأنا  الآن "زائر" دائم للمكتبة، أمرّ عليها مرتين الى ثلاث مرات أسبوعياً بعد تقاعدي العمل من مدرسة العمارة)،

 اتقصد أن يكون ذلك المسار يمر بمحاذاة مبنى مجمع "بلوكس" BLOX ، المشيد حديثاً في العاصمة الدانمركية، لأستمتع برؤية عمارة المبنى والتعلم من مقاربته التصميمية. ومجمع "بلوكس" هذا، مصمم من قبل واحد من اشهر المكاتب المعمارية العالمية: مكتب <اوما> "مكتب للعمارة المدينية"  Office for Metropolitan Architecture (OMA) ، الذي يديره المعمار الهولندي العالمي الشهير "ريم كولهاس" (1944) Rem Koolhaas. واعترف بأني من المتحمسين لعمارة هذا المصمم القدير، مثلما معجب كثيراً بسيرته الحياتية، هو الذي تعرف على "العمارة" والمعماريين، أولاً، أثناء عمله الصحفي، وهو شاب، في بدء الستينيات كاتباً في الشأن الفني والمعماري لصحيفة هولندية معروفة، ثم قرر، فجأة، أن يكون معماراً، ودرس المهنة في مدرسة الجمعية المعمارية البريطانية (AA)  بلندن في سنة 1968، ومن ثم أكمل تعليمه في جامعة "كورنيل" في نيويورك عام 1972، وليعمل، لاحقاً،  استاذاً في ذات المدرسة التى تخرج منها، يوماً ما، في (الاي، اي)(AA) . وهو الآن يُعدّ، إضافة الى نشاطه المهني المرموق، واحداً من أهم منظري العمارة المعاصرين. وقد أصدر عدة كتب، أًعتبرت من أهم ما كتب في الشأن المعماري في الفترة الأخيرة.  كما أن اسم المعمار "كولهاس" هو اسم قريب اليّ، مثلما، أظن، بأنه، أيضاً، قريب الى مسامع كثر من المعماريين العراقيين، إذ كان استاذاً للراحلة "زهاء حديد" أثناء دراستها في مدرسة الجمعية المعمارية (AA) بلندن في نهاية السبعينيات، وهو الذي رعاها أثناء سنين تعلمها في الكلية، ووجد علاقة مشتركة ما بين كتابة الحرف العربي والأسلوب التصميمي المميز للراحلة، ذلك الأسلوب الذي استطاعت زهاء به، كما هو معروف، أن تساهم في تغيير مجرى العمارة العالمية بتصاميم ذات لغة استثنائية، أدهشت العالم المهني لجرأتها وريادتها. علاوة على ذلك، فإن زهاء عملت في بدء نشاطها المهني في مكتب "ريم كولهاس" ذاته في لندن.  لكن ذلك ...قصة آخرى. فقصة حلقة "عمارات" الراهنة هو عمارة مجمع "بلوكس" الذي افتتحته الملكة في أيار 2018.

يقع مجمع "بلوكس" في موقع تاريخي مهم في الذاكرة الحضرية للعاصمة الدانمركية، إذ كان المكان جزءاً من مدينة كوبنهاغن التاريخية الذي يعود زمنه الى القرن الخامس عشر. وشغل الموقع مؤخراً مصنع للجعة لحين الستينيات، ثم أهمل بعد أن شق طريقاً سريعاً فيه. والموقع يحاذي الجبهة البحرية من مرفأ المدينة، ويقع بجوار قنال "فريدريكسهاون". كما إنه على مقربة من مبنى "المكتبة الملكية" اياها. واتخذ المبنى اسمه "بلوكس" جراء فضاءاته ذات الأشكال المكعبة المرصوفة، جنباً الى جنب بصورة غير تماثلية، ومجمعة بتشتت، وبتدرج نحو الأسفل. تأوي هذه الفضاءات وظائف متنوعة، مثل فضاءات للعرض الفني، ومطعم مع مقهي، ومركز لياقة بدنية، إضافة الى وجود 22 شقة سكنية يمكن تأجيرها لفترات زمنية قصيرة، زائداً موقف سيارات عمومي تحت الأرض. لكن الوظيفة المهمة والأساسية في المجمع هي وجود مقر "مركز العمارة الدانمركية" DAC فيه، مع جميع متطلباته من فضاءات عرض وقاعة محاضرات وفضاء لبيع الكتب المعمارية والفنية، بمعنى أن مجمع "بلوكس"، بتعدد وظائف أحيازه، ما هو إلا "مدينة في مدينة" كما يوصف. 

اضطلعت بإعداد تصاميم مجمع "بلوكس" معمارة مكتب <أوما> الرئيسية، والشريك  Partner النافذ: "ألين فان لون" (1963) Ellen van Loon، التى سبق لها أن صممت عدة مبان مهمة في المكتب بضمنها "سفارة هولندا في برلين/ المانيا" (2003)، والادارة الرئيسة لشركة تصميم الملابس العالمية "ج – ستار" G- Star RAW في أمستردام (2014)، بالإضافة الى "المكتبة الوطنية" في الدوحة / قطر (2018)، وغير ذلك من التصاميم الاخرى المميزة.

تسعى المعمارة وراء إنجاز مهمتها في تصميم مجمع "بلوكس"، الى عكس قيم و"تقاليد" مكتبها المعماري المعروف عالمياً، وخصوصاً فيما يتعلق بجعل المبنى المشيد حاضراً بقوة في نسيجه العمراني. إذ تدمج استخدامات المبنى وتفتح الواحد نحو الآخر بمجازية مبدعة، تضفي قوة وتأثيراً كبيرين على مجمل العمل المصمم؛ وهو ما تحقق فعلياً في فضاءات "بلوكس" المتنوعة. فزائر المبنى بمقدوره أن يجرب ويستمتع بجميع فعاليات المبنى المختلفة ضمن حدود أحيازه الداخلية. لكن الحدث الأهم في عمارة هذا المبنى المميز، يبقى في طبيعة لغة التصميم المتفردة، التى استقتها المعمارة لمبناها. ففي أسلوب معالجاتها التكوينية – الفضائية للمبنى، تذهب "ألين فان لون" بعيداً في تقصياتها التصميمية، وهجرها لكل ما كان مألوفاً "تكتونكياً"  Tectonic  ومعلوماً في السابق؛ بتعبير آخر، تتوق المصممة الى تناسي فاعلية القوام الانشائي للمبنى تكوينياً، وإغفال ما ينتج عنه من ذائقة جمالية، والاستعاضة عن ذلك كله بتلك المكعبات الحيزية المتراكمة الواحدة فوق الأخرى. وبهذا تضعنا المعمارة إزاء مقاربة تصميمية خاصة، تنزع لتأكيد قيمها بعيداً عن مفاهيم الحداثة التى تعودنا عليها، في مسلك يتوخى، بتقصد، الى عدم نهل "غرائبية" عمارة ما بعد الحداثة أو اقتباس مفرداتها؛ لكنها تبقى، مع هذا، تحوم عند تخوم الأخيرة.

تستحضر المصممة أسلوب توقيع مبناها في الموقع المخصص له، ذات الحل الذي اتبعه، سابقاً، معماريو مبنى "المكتبة الملكية" المجاور، من حيث جعل "شريان" الحركة المرور ينساب بحرية "مخترقاً" كتلة المبنى من منتصفها. فيكون الاتصال بين قسمي مبنى "بلوكس" عبر ممر سفلي تحت الأرض، وآخر علوي يربط بينهما. كما إنها تخلق، بمهارة، فضاءات عامة (ترفيهية بالاساس) على جانبي مبناها المطل على الجبهة البحرية والآخر، المعاكس له في الجهة الشمالية الغربية وكذلك جهة جنب القنال، هادفة بذلك جعل مباها المشيد مرتبطاً بفضاء المدينة المجاور بصيغة سلسلة وانسيابية. كما أن المعمارة راعت في اصطفاء كتلتها المصممة، أن تكون ضمن ذات خط سماء Skyline مباني المدينة القريبة، زيادة في اندماج مبناها ضمن النسيج الحضري للحي المتواجد فيه. تم توظيف مادة الزجاج بصورة واسعة، واستخدمت ألواحها في خلق "جدران" المبنى من جهاته المختلفة. كما استعملت تلك الألواح الزجاجية بلون أبيض حليبي تارة، وبلون أخضر معتم تارة أخرى. ويعزو المصممون قرارهم هذا الى تنويع الحضور اللوني في مبناهم، إضافة الى متطلبات العمل الإيكولوجي من جهة، واستيلاد انطباع يُذكرّ بصدأ منحوتات كوبنهاغن النحاسية العديدة  و"جِنزارها" الذي يعلوها، من جهة آخرى. وقد ترتب عن قرار تزجيج واجهات المبنى الشفافة، "افشاء" جميع الفعاليات الداخلية فيه وكشفها نحو الخارج، وتعريفها للمشاهد  خصوصاً أثناء الإنارة الليلة،  تأكيداً في إعلان بيّن عن وظائف المبنى المتعددة، وإبلاغها، بوضوح، للمشاهدين: المارين بقربه،  وتجسيداً، أيضاً، لأطروحة المكتب بكون المنشأ المنفذ ما هو إلا "مدينة داخل مدينة"!

وفي العموم فإن معماريي مكتب "اوما"، استطاعوا بلغة تصميمية حاذقة ومتميزة، أن يتعاطوا، بحذر شديد، مع خصوصية الموقع، وأن يراعوا ، بمهارة، متطلبات البرنامج التصميمي، مقترحين حلاً تصميمياً لمبناهم يتسم على رصانة معمارية عالية، تشيد بخصائص الحداثة الاسكندينافية وتذكرنا بسماتها وهي: الرسمانية، والبساطة والكياسة! إنه مبنى مثير في البيئة المبنية الكوبنهاغنية ويجد تعاطفاً مستمراً من لدن زواره ومشاهديه؛ وأرى ، شخصياً، بان عمارته تمثل إضافة مميزة وهامة الى المشهد المعماري العالمي.

والمعمارة "ألين فان لون"، مصممة مبنى "بلوكس" مولودة، كما ذكرنا في 1963، وهي معمارة هولندية، التحقت سنة 1998 بمكتب <اوما> الذي أسسه المعمار ريم كولهاس، في روتردام، واضحت ضمن قلة من المعماريين العقل الموجه في المكتب، وشريكاً Partner أساسياً فيه اعتباراً من عام 2005. قادت تصاميم عدة مشاريع حازت على جوائز مرموقة محلياً وأوروبياً وعالمياً، ومن ضمن مشاركاتها التصميمية إضافة الى تلك المشاريع التي ذكرناها في متن الحلقة، فقد صممت بنك روتشيلد "الإدارة العامة" في لندن (2011) ، و"دي-  روتردام" (2013) ، وهو أضخم مبنى في عموم هولندا، و<بيت الموسيقى> "كازا دا ميوسيكا "   Casa da Musica  (2005) ( في مدينة بورتو بالبرتغال) الحاصلة على جائزة RIBA سنة 2007، وهي الآن مشغولة في إعداد تصاميم تجديد البرلمان الهولندي، و"معامل مانشستر" في بريطانيا، وهو مشروع ضخم للفنون المسرحية بالمدينة وغيرها من المشاريع المهمة الأخرى.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top