ستار كاووش
الفرشاة علـى حافة مسند الرسم وخطوت بإتجاه الهاتف كي أردّ على الاتصال المفاجئ، فذكرتُ إسمي كما يفعلون في هولندا عادة عند الرد على الإتصالات،
ليصلني من الطرف الآخر صوت ناعم لإمرأة، ألقت التحية وقالت بإطمئنان (أنتَ السيد كاووش إذن؟) فأكدتُ لها ذلك بنبرة تحمل الإيجاب والترحيب، لتخبرني بأنها قد شاهدت واحدة من لوحاتي عند صديقة لها، وقَصَّتْ عليًّ أيضاً كيف إطلعت على كتاب يضم لوحاتي، لتعود تسألني إن كان بإمكانها زيارة مرسمي لترى إن كانت هناك لوحة أو لوحتان مناسبة لإقتنائها، فرحبتُ بها وأخبرتها أن المرسم مليء باللوحات الجديدة ويمكنها الإطلاع عليها، والقهوة حاضرة دائماً، وهكذا إتفقنا على موعد للزيارة.
حضرت المرأة الى مرسمي في الموعد، كنتُ وقتها وحيداً، والمرأة التي دخلت المرسم جميلة وفي منتصف الثلاثينيات من العمر، وملامحها كلاسيكية تشبه موديلات الرسام كارل فيلينك، فتحدثنا وتنقلنا بين اللوحات، في الحقيقة هي كانت تتأمل اللوحات، بينما أنا كنتُ أتطلع لجمال هيئتها التي لم أتوقعها في ظهيرة ذلك اليوم، فأنشغلنا بالحديث عن اللوحات والألوان والتقنيات، وهي تواصل التعبير عن ولعها بالرسم، حيث أعجبتها الألوان كثيراً لأنها قريبة من ذوقها، وحسب وصفها فإن هذا النوع من اللوحات هو ما تبغيه من الرسم. كانت بداية حسنة، وكما يقول الهولنديون (البداية الجيدة، هي نصف قيمة العمل) لذا رغم إعدادي القهوة، كنت أشرد بخيالي وأحاول إستباق كل شيء وأحضر لنا كأسي نبيذ! شربنا القهوة وعادت تتأمل اللوحات من جديد، وبينما هي على هذا الحال أطلت من نافذة المرسم نحو المزرعة الكبيرة التي أحاطت بالمكان، حيث كانت هناك بضعة حملان صغيرة قد ولدت قبل أيام، وكنتُ أراقبها كل صباح وأتطلع الى محاولاتها في المشي والتقافز على العشب الأخضر الطري بقوائمها الأربعة في وقت واحد، كانت بيضاء تتلألأ عليها أشعة الشمس وتنعكس على براءتها فتحولها الى ملائكة صغيرة إلتمعتْ مثل القطن، وتماهت مع روح العشب الذي كان ينمو مثلها ويتطلع بفضول الى العالم الخارجي. وفيما إنشغلتْ الحملان باللعب وأنا أتابعها بفرح غامر لأنها تشير الى جمال الحياة وفتنة جدواها وحقيقتها، توقفتْ المرأة أمام هذا المشهد السرمدي، لتوجه نظرها نحو أحد الحملان القريبة قائلة وهي تزم شفتيها وتحرك رأسها يميناً وشمالاً (ما ألذ هذا الحمل في الشواء) وهنا تراجعتُ قليلاً الى الوراء من فرط دهشتي وقلت لها وأنا أرتجف: هل تقصدين فعلاً هذا الحمل الصغير؟ فأكدت لي بأنها تقصد هذا بالضبط! عندها اعتراني نوع من الريبة والذعر منها، وربما من نفسي ومن الناس بشكل عام ونظرت لها موجهاً كلامي (بصراحة متناهية، كنت أنظر لك بإعتبارك امرأة باهرة الجمال، وكنت أحاول ان انتهز الفرصة وأمنّي نفسي بتطور علاقتي بك، لكني الآن عرفت أن الجمال يمكن أن يخفي وراءه الكثير من الرغبات القاسية، ولا يتردد البعض في تحويل أي شيء مهما كان جميلاً الى لقمة سائغة. لقد أظهر هذا الكائن الصغير حقيقة جمالك ورفعتك! وهنا انتفضتْ المرأة ووجهتْ لي كلمات أشد قسوة مما اظهرته أزاء الحمل الوديع. وبعد نقاش حول الموضوع، وكيف يمكن للإنسان أن يكون رؤوفاً بالكائنات الضعيفة، باء الحوار بالفشل الذريع، مثلما أُلغِيَتْ صفقة شرائها اللوحات. فخرجت وهي تعدل أناقتها وتنظر اليَّ بإزدراء، ثم فتحت سيارتها من بعيد بجهاز التحكم الصغير وهي مازالت على عتبة المرسم.
ذهبت تلك المرأة بعيداً، بينما انشغلتُ أنا بالنظر الى ذلك الحمل الصغير الذي مازال يتقافز وهو لا يفهم ما يجري حوله، ولا يعرف ما حدث في المرسم طبعاً، ليمضي بعدها نحو أمه التي كانت تبحث عنه، بينما أشعة الشمس أخذت تعكس ضوئها الدافئ على وجهي، وتغفو برفق على حافة النافذة.
اترك تعليقك