الباحث الأكاديمي وسوء العاقبة

آراء وأفكار 2020/02/11 07:45:58 م

الباحث الأكاديمي وسوء العاقبة

د. نادية هناوي

هناك مثل عربي قديم يقول ( في الصيف ضيعت اللبن ) وأذكره هنا لأنه ينطبق على حال الباحث الأكاديمي في جامعاتنا العراقية الذي مهما بذل من الجهد وقدم العطاء تلو العطاء فسيبقى مشكوكاً في صدقه ومظنوناً سوءاً في حسن نواياه.

وما ذلك إلا لكونه يشكل استثناءً من عموم أكاديمي عاطل عن البحث العلمي. 

وهذا خلاف العادة التي فيها الباحث شخص مطلوب منه النفع بالمزيد ومأمول فيه الخير الكثير. فميدانه العلم وديدنه المعرفة ولا سبيل إليهما إلا بالاخلاص والمثابرة. وهاتان الخصلتان لا تتأتيان والباحث يضع يده على خده منتظراً أن تأتيه الفرص البحثية من لدن المؤسسة الجامعية التي يعمل فيها، فذلك بالتأكيد مستبعد كل الاستبعاد لأسباب معروفة لا حاجة لذكرها، ومن ثم يتوجب على الباحث الجاد أن يبادر بنفسه للبحث عن تلك الفرص البحثية بجهوده الذاتية وحسب خبراته الجامعية وتجاربه العلمية، مقتنعاً ومسلماً بأن الجدة في البحث الاكاديمي هي آخر ما يُحسب له حساب عندنا للأسف. أما الكثرة الكاثرة فهي غالباً ما تكون من الذين يعيدون إنتاج المنتج البحثي ولا يقع التجديد ضمن اهتماماتهم، هذا إن كانوا متخصصين حقاً في اختصاصاتهم ولا يرغبون من وراء البحث ترقية أو شهادة. والأمر لا يقتصر على أبحاث ما بعد الدكتوراه بل يشمل أبحاث الماجستير والدكتوراه بكل تأكيد.

وبسبب ما تقدم يشمر الباحث الاكاديمي العراقي عن ساعديه باحثاً عن فرص لتطوير قدراته منقباً في الشبكة العنكبوتية عن ندوة دولية هنا أو حلقة دراسية أو مؤتمر عالمي هناك، لعله يجد بغيته المعرفية التي تصب في صالح تخصصه. حتى إذا كتب وبحث ظل ينتظر الدعوة الرسمية بالمشاركة وحين يحصل عليها يهلل ويستبشر أنه وضع في مشواره العلمي خطوة جديدة تؤكد مثابرته وتدلل على وعيه بمهمته كباحث في مؤسسة جامعية توصف بأنها علمية وأكاديمية. 

بيد أن أتعس التعاسات حين يجد هذا الباحث الذي أنهك نفسه بالبحث وكرس جهده في سبيل انجاز مهمة المشاركة أن ما فعله تبدد وذهب سدى، وأن أي خطوة يقدم عليها لن تتحقق ما دام يجذف في النهر لوحده حيث لا مؤسسة تضمن له الذهاب مذللة صعوبة حيثيات السفر أمامه، بل عليه هو لوحده أن يذلل الصعوبات وأن يكون سوبرمانيا يجمع متطلبات المشاركة العلمية وغير العلمية. 

وإذا تمكن فعلا من اتمام متطلبات المشاركة البحثية في مؤتمر خارجي فعليه أن يقطع شوطا آخر أكثر إيلاما ومرارة يتمثل في أن يثبت ما هو ثابت ويؤكد ما هو مؤكد كونه مشكول الذمة فيما يفعل ومشكوك النوايا في صحة ما يسعى إليه. وأول ذلك أن عليه أن يوقع أوراقا قبل مغادرته وأوراقاً أخرى أثناء حضوره المؤتمر وأوراقاً ثالثة بعد عودته. وثانيا عليه إذا كان قد أنجز بحثا يصب في باب تخصصه أن يستجدي اللجنة العلمية في قسمه أن تشهد له بذلك واذا شهدت له بذلك فعليه أن يثبت أن المؤسسة التي دعته رصينة وهو ما يقتضي منه أن يشهد عليه ثلاثة من زملائه بذلك حتى إذا شهد كل هؤلاء بذلك فإن عليه أخيراً أن يذكر عدد أيامه التي هي أصلاً منصوص عليها في ورقة المشاركة ومع ذلك عليه أن يذكرها كي يقطع اي تخمين انه سيستغل ذهابه لاجل الا يفيد من يوم زائد هنا او هناك مستبعداً الصدف التي قد تضطره الى زيادة مدة الايفاد أو لا ولا يعلم بتلك الصدف إلا الله وحده. 

وإذا سلم الباحث بكل ما تقدم فإن التساؤل الذي سيذوق مرارة طرحه على نفسه هو لماذا تظن المؤسسة التي ينتمي اليها الباحث ظنا سيئا به ؟ ثم ما الداعي لكل هذا التخوين وذهابه وإيابه متكلف هو به لوحده متحمل وزر عواقبه ونوائبه ؟ ولماذا المؤسسة التي ينتمي إليها الباحث لا يعنيها أمر حصوله على تذكرة السفر او التاشيرة أو الاقامة او التنقل بل لا شأن لها بكل ذلك سواء ذهب الباحث للمؤتمر أو لم يذهب؟ ثم إليس الاولى بالمؤسسة التي ينتمي اليها الباحث أن تتحمل أعباء المشاركة لأنها هي التي تفيد من مشاركته بوصفه أحد أعضائها والمردود الذي سيسجله سيكون لصالحها أيضاً ؟. 

وبسبب كل ذلك التخوين واللامبالاة بالمشاركة البحثية أو عدم المشاركة ـ وهي عراقيل بلا أدنى شك ـ يغدو المردود النفسي على الباحث خطيرا وقد يغزو الاحباط روحه ويصير اللوم والندم رفيقيه ليل نهار ولاسيما حين يفشل في إتمام متطلبات السفر لأسباب مادية وروتينية وقد يضطر الى ترك المشاركة لعدم تمكنه من الحصول على تأشيرة السفر. وهو الذي وقَّع هذا وذاك على أوراق المشاركة وبان عنوان بحثه للطارئين والمتصيدين لما هو جديد ولعل الآخرين الذين هم في التخصص نفسه سيسطون على بحثه.. هذا فضلاً عن صورته وقد عجز أمام مسؤوليه عن تحقيق مهمته ودلل على عدم قدرته على إتمام مشروعه في السفر. 

هكذا يصبح مصير الباحث الأكاديمي الذي يريد تطوير ذاته وتنمية معارفه في مهب الندم ومرتع الأسى. فكيف بعد ذلك يصل إلى المعرفة ويخلص للعلم وهو وحده في النهر يجذف ضد التيار. ولو كان سكن إلى الدعة واطمأن إلى ما تطمئن به نفوس أقرانه ممن يحسبون على البحث العلمي من الذين اقتنعوا أن ما لديهم من معرفة يكفي وأن لا حاجة إلى زيادتها؛ بل لعلهم لا يمتلكون القدرة لزيادتها فيسخرون ويستهينون بمن يسعى إلى تطوير قدراته. 

وإذ نضع هذه الصورة القاتمة للباحث الإكاديمي الذي يريد أن يتميز ويميز معه مؤسسته البحثية بالجديد؛ فإننا نبتغي من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أن تعيد النظر في المسائل التي لها صلة ماسة بالسمعة العلمية للباحث العراقي الذي ينبغي أن يذهب إلى أي محفل علمي دولي وهو سواء مع أقرانه الباحثين من الدول الاخرى وقد سندته مؤسسته وعضدت عمله فلمْ تخونه ملزمة إياه بتوقيع ورقة من لدن المؤسسة التي يشارك فيها وكأنه متهم عليه أن يثبت براءته، هذا فضلا عن متعلقات الدعم اللوجستي التي ينبغي أن يحظى بها الباحث وإلا فاننا سنقرأ الفاتحة على روح أية جدة نريدها لمؤسساتنا الجامعية. 

ولسنا هنا بصدد وضع وصفة جاهزة للصورة التي ينبغي أن تعطى للباحث الاكاديمي المشارك في مؤتمر عالمي وإنما نريد أن نقارب صورة بصورة صورة الباحث وهو يتنقل بين السفارات باحثا عن فيزا وصورته والفيزا تحصل له عليها مؤسسته. وكذلك صورته وهو يستعطف هذا وذاك ليؤكد أنه صاحب بحث ومتخصص وذاهب الى مؤسسة مرموقة وبين صورته ومؤسسته واثقة من تخصصه وسمعته فلا هي تخونه ولا تشك في نواياه. وكذلك صورته وهو يعبر الحدود ويتجشم العقبات لوحده وبين صورته ومؤسسته تتابعه وتضمن له حل اية عقبة تواجهه. 

وإذا كانت وزارة التعليم العالي عاجزة عن تقديم الصورة المعمول بها في مؤسسات مماثلة في الدول الاخرى فعليها أن تعترف بذلك ولا تضيّق على الباحث بايفاد ليس من ورائه سوى قبض ريح. علما أنه الى العام 2008 او ما بعدها كان تعطى للباحث الذي يشارك في مؤتمر علمي خارج العراق ما نسبته مئة بالمئة كحد أعلى و30 بالمئة كحد أدنى بها تغطى جميع متطلبات السفر والمشاركة. 

وهو ما نراه حقيقاً بمن ثابر تمييزاً له عمن لم يثابر فالذين يعلمون ويعملون ليسوا كالذين لا يعلمون ولا يعملون. ومهما قلّبنا هذه المسألة فلن نجدها إلا حقاً مشروعاً ومطلباً أكيداً ينبغي أن يحظى به الباحث بلا توسل ولا استجداء. وإذ أثير هذه الشجون وأفصل فيها، فلأنها بالمنظور الأكاديمي مأساة حقيقية يعيشها كثير من الأساتذة العراقيين الجادين والمبدعين.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top